أُعلن قيس سعيّد، أمس، رئيساً للجمهورية، بعد أدائه القسم أمام البرلمان المنتهية ولايته، لتُتِمّ تونس بذلك عملية انتقال استثنائية للسلطة، حدّدتها آجال دستورية ضيّقة بعد وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي. وتيسّرت العملية بعدم طعن المرشح المنهزم، نبيل القروي، في نتائج الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، بعد تحصّله على حوالي ربع أصوات الناخبين فقط.
في خطابه للشعب، تحدّث سعيّد عن وصوله إلى السلطة وما يحمله من دلالات (أ ف ب )

في خطابه للشعب، تحدّث سعيّد عن وصوله إلى السلطة وما يحمله من دلالات. إذ اعتبر الرئيس الجديد أن انتخابه وما تلاه «ثورة حقيقية بأدوات الشرعية ذاتها، وثورة ثقافية حقيقية». يبدو هذا التصريح مبالَغاً فيه بعض الشيء، على رغم أنه لا يقصد الحديث عن شخصه، بل عمّا يمثّله، فهو مرشّح مستقل غير مدعوم من أحزاب أو ماكينات انتخابية وازنة أو مجموعات مالية نافذة، كما أنه ناقد للنظام السياسي الذي أقامه الدستور الجديد والنخبة السياسية التي صاغته.
أطنب سعيّد في امتداح الشعب الذي «أذهل العالم بأسره»، ودشّن «لحظة تاريخية يتغيّر فيها مسار التاريخ»، وهذا أحد الملامح الشعبوية في خطابه. مع ذلك، يحظى الرئيس بتأثير معنوي كبير في الناس، الذين بثّ فيهم انتخابه موجة أمل قادت إلى تشكّل مجموعات عمل مدني نزلت إلى الشوارع وأطلقت حملات نظافة واسعة، ودعوات إلى التضامن واحترام القانون. وتعود جرعات الأمل إلى ما يمثّله سعيّد، لكنها متولّدة أيضاً من هزيمة منافسه، نبيل القروي، الذي يعدّه جزء واسع من الجمهور أيقونة للفساد وللنظام القديم.
الخسارة القاسية التي مٌني بها شخص يحمل هذه الصورة تنعكس في وجدان كثير من الناس كانتصار للثورة وقيمها. بهذا المعنى، تأمل قطاعات شعبية وسياسية في أن يحمل سعيّد الثورة إلى داخل الدولة. لكن، هل ذلك ممكن فعلاً؟ حمل خطاب تسلّم الرئاسة إشارات في هذا الاتجاه، حيث استذكر سعيّد شهداء الثورة وجرحاها الذين أُبعدوا عن الخطاب الرسمي في الأعوام الخمسة الماضية، وقال إن «من يهزّه الحنين للعودة إلى الوراء يلهث وراء السراب ويسير ضدّ مجرى التاريخ»، كما استذكر شعارات الثورة المركزية: شغل، حرية وكرامة وطنية. تحدّث الرئيس أيضاً عن العدل، وقال إن الشعب بقدر تطلّعه إلى الحرية يتطلّع أيضاً إلى العدل، «فقد ضاقت الصدور من الظلم والحيف في كلّ المجالات». ورأى أن السبيل لاستثمار المناخ الإيجابي يكون بتأسيس «علاقة ثقة جديدة بين الحكّام والمحكومين»، وكذلك «تصور سبل جديدة لتحقيق آمال شعبنا». لا يطرح سعيّد الكثير غير التعهد بتطبيق القانون، وعدم «التسامح في أيّ ملّيم من عرق الشعب»، والدعوة إلى التضامن.
يمثّل نجاح قيس سعيّد بلا شك انتصاراً رمزياً للثورة، لكنه يواجه الآن اختبارات مصيرية


حمل خطاب سعيّد في طيّاته بذوراً لمشروع سياسي تكون العدالة الاجتماعية وقيم الثورة محوره، لكن نموّها يستوجب وجود تصورات تنفيذية واضحة تكمن مفاتيحها في أيدي النخبة السياسية التي لطالما نقدها. لا يملك الرئيس صلاحيات تنفيذية واسعة، وعلى رغم امتلاكه القدرة على تقديم مبادرات تشريعية ذات أولوية، إلا أنها لن تكفي لإحداث تغيير إلا في حال نجح في إقامة تحالفات مع كتل وازنة في البرلمان، وذلك ممكن لأن أغلب الأحزاب الكبيرة دعمته في وجه القروي وتنوي إسناده مستقبلاً.
في محور آخر، وجّه سعيّد حديثه إلى قطاعات من الجمهور والفاعلين تتعامل معه بريبة، وتسعى إلى استخلاص إيضاحات خاصة حول موقفه من دور المرأة والنقابات. وقال الرئيس الجديد إنه «لا مجال للمساس بحقوق المرأة»، داعياً إلى «مزيد من تعزيز حقوقها، خاصة الاقتصادية والاجتماعية»، واعتبر أن «المنظمات الوطنية يمكن أن تكون قوة اقتراح». وتعود أسباب تلك الريبة إلى مواقف عبّر عنها سعيّد خلال حملته، من بينها معارضته إقرار المساواة في الإرث بين الرجال والنساء، ورفضه إلغاء عقوبة الإعدام.
لم ينسَ سعيّد تناول الأمن الداخلي، ولخّص حديثه عنه بالالتزام بـ«مواجهة الإرهاب والقضاء على كلّ أسبابه». وختم الخطاب بإشارات حول السياسة الخارجية، مع تركيز على أن تونس «ستبقى منتصرة لكلّ القضايا العادلة وأولاها قضية شعبنا في فلسطين». واسترسل قليلاً في الحديث عن القضية الفلسطينية ومشاريع الصفقات التي تروّج لقبرها، حيث اعتبر أن «الحق الفلسطيني لن يسقط بالتقادم كما يتوهم كثيرون»، مضيفاً أن «ما هو منقوش في الصدور لن تقدر على فسخه القوّة أو الصفقات».
يمثّل نجاح قيس سعيّد بلا شك انتصاراً رمزياً للثورة، لكنه يواجه الآن اختبارات مصيرية ستحدّد مصير رئاسته. عارض الرجل سابقاً المنظومة التي تأسّست بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي، وهو يحمل موقفاً متشكّكاً تجاه الأحزاب، لكنه صار الآن جزءاً من تلك المنظومة، ويتحتّم عليه التعامل مع عناصرها لإصلاحها في اتجاه تحقيق تمثيلية أكبر للشعب وتكريس مبادئ الثورة. ستساعده في ذلك المواقف التي أبدتها كتل مهمّة داخل البرلمان حول إرادتها في التغيير والتعاون معه، وهي تبدو واعية حقيقة أن تكرار الصراع بين مؤسسات السلطة لن يخدم أحداً.