منتصف الشهر الماضي، تلقّى «يوتيوبر» عراقيّ شابّ تهديداً بالأذى مِن «يوتيوبر» عربيّ آخر، على خلفية حسد ومنافسة في ما يُقدّمانه مِن محتوى. هما مشهوران، لديهما ملايين المتابعين، وكلاهما يعيش في تركيا. في ردّه على التهديد، قال العراقي: «باوع أقلّك شغلة، إحنا عراقيين ترى، إحنا مِن سنة 2003 لليوم ميتين، أوكي؟ فبالتالي أنت تهدّد واحداً ميّتاً... سوالف التهديد ما تمشي ويانا». كلماتٌ على لسان شاب عشريني، وإن أتت في سياق بعيد عن السياسة، إنما يمكن أن تلخّص حال العراق اليوم. هذا العراق الذي، خلال سنوات المحنة بعد الغزو الأميركي، وصولاً إلى اللحظة «الداعشية» وما رافقها، كان بعضنا يستعجب كيف لا يزال فيه أحياء. كان بعضنا يسأل، ساخراً مستفظعاً، بعد كلّ مجزرة، كلّ عملية انتحارية، كلّ مقتلة، وسنة تلو أخرى... تُرى كيف لا يزال هناك عراقيون أحياء؟ ألم ينضب ذلك الدم بعد؟ وأبعد من الدم، أيتوقّع أحد أنه بعد كلّ الذي جرى، قبل صدّام وبعده، قبل الغزو وبعده، قبل داعش وإلى اليوم... أن الأحياء هناك ما زالوا أحياء؟ أيبقى ما في الرأس سليماً، بعد كلّ ذلك، في بلاد السواد التي وُصِفت قديماً بـ«جمجمة العرب»؟ذاك «اليوتيوبر» العراقي الشاب، واسمه أحمد البياتي، لم يترك العراق ليقيم في تركيا إلا لأن الأخيرة دولة لديها إنترنت «عادي». عالمياً، قوة الإنترنت في تركيا عادية، ولكنها بالنسبة إلى إنترنت العراق، وهو الأسوأ عالمياً، عالية جداً، وتستأهل التغرّب مِن أجلها. يترك أهله، ويعيش وحيداً في بلد آخر، ذلك لأن عمله الذي يتكسّب منه يحتاج إلى إنترنت عادي. في العراق لم يكن يمكنه أن يرفع (آبلود) مقطع فيديو في قناته بجودة مشاهدة مطلوبة، فهاجر. هذا الشاب احترف، طوال السنة الماضية، لعبة «ببجي موبايل»، وبدأ ينشر مقاطعه. هذه اللعبة التي اجتاحت العراق، لم تترك شاباً هناك إلا وأصابته بإدمانها، إلا ما ندر، حتى بات العراقيون بحسب الإحصائيات هم الأوائل عالمياً. ثمة طرفة تُقال بينهم: ما مِن عراقي إلا ويلعب «ببجي»، اللهم باستثناء المرجعية (تبيّن لاحقاً أن هناك رجال دين، خاصة الشباب مِنهم، يلعبونها في حوزاتهم أيضاً). كثيرون سألوا عن سرّ تفشّي تلك اللعبة في العراق على نحو لافت، وكأنها موجة جنون. لعلّ إشارة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى كون البطالة هناك تصل إلى نحو 40 في المئة بين الشباب، تحمل شيئاً مِن جواب ذاك السؤال. إشارة دولية أخرى تتحدث عن شعب مِن 40 مليون نسمة يعيش نحو 23 في المئة منهم بأقلّ من 1.9 دولار يومياً. جيل الشباب هناك يُسميهم البعض حالياً «جيل ببجي». في الأيام الأخيرة، هناك مَن ربط هذه التسمية بما يجري من احتجاجات معيشية سخريةً من المحتجّين، فيما استخدمها آخرون بصيغة فخر، إشارةً إلى أن هذا الجيل يختلف عمّن سبقه. وزير الاتصالات العراقي يتحدث عن سوء البنية التحتية للإنترنت في بلاده، ويُشير إلى الفساد، وإلى وجود عصابات تُهرّب السعات إلى خارج البلاد. سمعنا عن بلاد فيها تقنين في ساعات الكهرباء، لكن هل سمعتم عن بلد فيه تقنين في ساعات الإنترنت؟ هذا يحصل في «كوكب العراق»... البلد الذي يملك رابع أكبر احتياط نفطي في العالم، البلد الذي يُنافس حالياً على المركز الأول عالمياً في مؤشر الفساد. عندما يُحكى عن فساد كلّف نحو 450 مليار دولار خلال نحو 15 عاماً، وهذا رقم فلكي، يُمكننا أن نأخذ فكرة عن حجم «الجوع العتيق» إلى السلطة النهبويّة.
أما آن لنبوءات إشعيا بخراب بابل وسقوطها أن تنقضي؟


علي الوردي، عالم الاجتماع العراقي المعروف، كتب قبل أكثر من 60 سنة عن «شخصية الفرد العراقي». أشار في السياق إلى أن: «الصعود المفاجئ من أبناء العامة إلى مراتب الحكّام... نفخ فيهم شعوراً زائفاً بالعظمة والعبقرية والمقدرة على المعجزات... هذا الشعور يؤدي إلى البطر». البطر هذا، وفي أعلى مستوياته، تفهم شيئاً منه هناك، في البلد النفطي الغني، عندما تعلم أن الناس في البصرة يئنّون من انقطاع الكهرباء صيفاً، حيث درجة الحرارة تلامس الـ55 درجة. هذا شكل من أشكال القتل. هذه أوضح صور «المؤامرة». البصرة، وهي المكان الأكثر احتراراً في العالم بحسب الأمم المتحدة، لن تكون بعد مدة (إلى جانب الكويت) صالحة للعيش البشري في ظروف طبيعية. مَن يكره جلده صيفاً وهو في بلد درجة حرارته لا تصل إلى الأربعين درجة، عليه أن يحاول، مجرّد محاولة تأمّلية، استيعاب فكرة حرارة تبلغ 55 درجة. لا كهرباء في العراق! هذه تُفهم في بلاد ليست فيها طاقة، إنما في العراق؟! مَن يُحتضر والده أمامه، كما أخبرنا علي سعيد البصراوي، نتيجة حاجته إلى غسيل كلى عاجل، ولا غسيل بلا كهرباء، ما الذي يتوقّعه «العقلاء» منه؟ أحقاً يُطلب منه أن يظلّ حكيماً ومنطقياً ومتبصّراً وما شاكل؟ أفات أولئك «العقلاء» أن ليس كلّ الناس أنبياء؟ ثمّ ماذا عن النفايات التي تتكدّس في الطرقات هناك، فتتحلّل تحت حرارة الشمس، ثم نقرأ عن عشرات الآلاف الذين نُقلوا إلى المستشفيات نتيجة تلوّث مياه الشرب؟ تلوّث! أزمة مياه! أين، في بلاد الرافدين؟ هناك نهران أبديّان، لا نهر واحد، هما الهوية الرافدينيّة منذ الأزل: دجلة والفرات. في كلّ ملف من هذه الملفات نقرأ عن الفساد، وباعتراف المسؤولين هناك، أي أن المسألة ليست سرّاً. أن تدفع شخصاً إلى الجنون عمداً، ثم تلومه على جنونه، فأنت أكبر مؤامرة عليه وعلى نفسك والبلاد. أما عدوّك، القريب أو البعيد، فالعادي أن يَحوك ضدّك المؤامرات. هذه مَهمّة أيّ عدو. أن لا تكفّ أنت عن منحه الثغرة تلو الأخرى، ليدخل منها إليك، لأنك تُريد أن تنهب أكثر، فأيّ دور يلعبه العملاء والجواسيس عادة غير ذلك؟ بالمناسبة، ما فعلته الولايات المتحدة الأميركية في العراق، وما تفعله الآن، فضلاً عن دور حليفتها السعودية، لم يكن يوماً مؤامرة. لا بدّ أن تكون المؤامرة سرّية، غير سافرة، وإلا تكون شيئاً آخر. العراق حُطّم على مرأى العالم ومسمعه، علناً، وبفجور. هل يعرف المسؤولون هناك، وهم يعرفون حتماً، أن المخدّرات تجتاح بلادهم على نحو مُخيف كما لم يحصل مِن قبل؟ التقارير الرصينة في هذا الخصوص كثيرة، محلية وخارجية، هذا ومستشفى الكندي لا يملك إلا نحو عشرة أسرّة لمعالجة الإدمان في بلاد الأربعين مليون نسمة. لا يوجد قطاع عراقي إلا وفيه فساد خرافي. بدل أن تنهب 450 مليار دولار، كان يُمكن أن تنهب 400 مليار وتترك للناس 50 ملياراً فقط. كان هذا المبلغ ليكفي أن يشعر الناس، بعد مشاريع غير فاسدة، أن شيئاً ما تحسّن في بلادهم نحو الأفضل. فتى عراقي عمره 12 عاماً قالها هكذا للمسؤولين في بلاده: لا تكفّوا عن السرقة، اسرقوا، ولكن دعوا لنا شيئاً.
زعم علي الوردي أنه فكّ لغز الشخصية العراقية. تحدّث عن الازدواجية في الشخصية، وهي موجودة عند كلّ البشر، ولكنها في العراق «أقوى وأوضح. العراقي يرقص رقصة عشائرية ويغنّي الأغاني المدنية، وخلاصة الأمر: نشاز». وفي سياق حديثه عن العقلية الحاكمة في بلاده، يقول: «كلّ منا ينتقد غيره، وكلّ منا ينسب خراب الوطن إلى الآخرين، ناسياً أنه هو مساهم في هذا الخراب قليلاً أو كثيراً». منذ أكثر مِن ستّة عقود تحدّث عن طبقة «الأفنديّة» هناك، شارحاً: «هم لا يهمّهم أن يعاني الشعب من أدواء الجوع والمرض والجهل ما يعاني، لأنهم مشغولون بتزيين شارع الرشيد حتى لا يتقزّز منه السيّاح، وفي وضع خطط لفتح العالم... هذه الطبقة يكثر فيها ازدواج الشخصية، فهم في الدائرة أو النادي فلاسفة طوباويون، وفي غير ذلك أناس عاديون، مثلي ومثلك». الظاهر أنهم آنذاك كانوا يهتمّون بتزيين الشوارع وتنظيفها. لم يعش الوردي إلى زمننا ليرى الشوارع، بما فيها أزقة النجف، أو «فاتيكان الشيعة» كما يصفها البعض... عندها كان ليُحمِّل «بَبْجي» على هاتفه ويبدأ اللعب. أما آن لنبوءات إشعيا بخراب بابل وسقوطها أن تنقضي؟ العراق الباكي منذ الأزل، نحيبه على تموز البابلي لوّن روحه، قبل أن تأتيه كربلاء وتطبعه بتراجيديا أبدية. أغانيهم، حتى التي يقصدون بها فرحاً، تخرج كأنها النحيب نغماً. لعلّ مظفّر النوّاب جمع كلّ ذلك في شخصه، وفي شعره: «لماذا العراق بعيد... وكل البكاء هنا».