بدأ أمس الكشف الجزئي عن نتائج الانتخابات التشريعية المنعقدة يوم الأحد. مبدئياً، تصدّرت «حركة النهضة» الإسلامية، يليها حزب «قلب تونس» الذي يتزعمه نبيل القروي، فيما حصّلت «حركة الشعب» و«التيار الديمقراطي» القريبان من اليسار نتائج إيجابية. أمام هذه الحصيلة، يمكن القول إن المشكلة الأكبر التي ستواجه البرلمان الجديد هي تشتّت المقاعد بين عدد كبير من الخصوم، ما يعني صعوبة تشكيل حكومة مستقرّة، ويترك احتمال عقد انتخابات مبكرة قائماً.بصفة عامة، لم تبتعد توقّعات شركات استطلاعات الرأي عن النتائج الفعلية للانتخابات التشريعية، مع وجود بعض المفاجآت. وضعت غالبية التوقّعات حزب «قلب تونس» في المرتبة الأولى و«حركة النهضة» ثانياً، لكن انقلب الترتيب، حيث تصدّرت «النهضة» بحوالي 40 مقعداً، يليها «قلب تونس» بحوالي 33 مقعداً. ويعود هذا التغيّر إلى عدد من الأحداث التي جدّت في الأيام القليلة السابقة للانتخابات. من ناحية، تعرّض حزب نبيل القروي لحملة دعاية مضادّة، تركّزت في مواقع التواصل الاجتماعي، بعد انكشاف توقيعه عقداً مع شركة علاقات عامة كندية يقودها ضابط «موساد» سابق بهدف تنظيم لقاء بين القروي والرئيس الأميركي دونالد ترامب، والعمل على توفير دعم روسي له. ومن ناحية ثانية، نزلت «النهضة» بثقلها في حملة دعاية، قادها زعيمها راشد الغنوشي، أعادت فيها تبنّي خطاب ووعود قديمة حول مشاريع ذات نَفَس إسلامي، على غرار مشروع قانون ينظّم جمع وتوزيع الزكاة.
استعادة «النهضة» قطاعات من الناخبين في اللحظات الأخيرة، والتي تحتفل بها قيادتها بوصفها «انتصاراً»، تخفي وراءها تراجع شعبيّتها بصفة إجمالية. تقلّصت كتلة الحركة من 87 مقعداً في المجلس التأسيسي، إلى 69 مقعداً في البرلمان المنتهية ولايته، لتصل الآن إلى حوالي 40 مقعداً (من بين 217 مقعداً في المجلس). يعني ذلك أن «النهضة» فقدت حوالي 29 مقعداً في خمسة أعوام، فأين ذهبت تلك الأصوات؟ يكمن جزء كبير من الإجابة عن هذا السؤال في التحوّلات التي عاشتها الحركة في الأعوام الأخيرة. بداية، تمّ تهميش النواب البرلمانيين الأكثر تشدّداً في المجلس التأسيسي، حيث استُبعدوا من قوائم «النهضة» في الانتخابات التشريعية عام 2014. لاحقاً، عام 2016، عقدت الحركة مؤتمرها العاشر، وقرّرت خلاله تبني «سياسة التخصّص»، أو ما يعرف باسم «فصل الدعوي عن السياسي»، وجرت بناءً عليه حملة تهميش جديدة لوجوه متديّنة ومتشدّدة في خطابها بعد تخييرها بين العمل السياسي والعمل الدعوي الديني - الخيري. تمّ كلّ ما ذُكر لإعطاء «النهضة» وجهاً مدنياً على وقع الحملة الإقليمية والمحلية ضدّ الإسلام السياسي. لكن، نُسي هنا أن تغيير ملامح التنظيم الإسلامي لا يؤدي بالضرورة إلى تغيير ملامح قواعده الانتخابية، وهذا بالضبط ما حصل. مع تراجع السمت الإسلامي لـ«النهضة»، برزت تنظيمات أخرى لملء الشغور وحصد أصوات القواعد الرافضة للتغيير.
يبدو احتمال تشكيل حكومة تكنوقراطية الأكثر ترجيحاً


حصّل «ائتلاف الكرامة»، الذي يجمع ناشطين يتبنّون نظريات مؤامرة حول وجود هيمنة فرنسية مطلقة على تونس وثرواتها ونخبها الحاكمة وشيوخاً مقرّبين من التيار السلفي، ما يقارب 15 مقعداً، في حين نال «حزب الرحمة» بقيادة الشيخ سعيد الجزيري، الذي يتبنى خطاباً سلفياً وعظياً، ما يقارب 5 مقاعد. فقدت «النهضة»، أيضاً، جزءاً مهمّاً من قواعدها الانتخابية جنوبيّ البلاد، الذي يُعدّ تاريخياً معقلاً للإسلاميين. أبرز المستفيدين الجدد في الجنوب «حركة الشعب» القومية الناصرية، التي حقّقت إجمالاً ما يقارب 15 مقعداً. صعود هذا التنظيم يعود إلى عمل دؤوب خلال الأعوام الماضية، تبنى خلاله خطّ المعارضة من دون رفض المشاركة في «حوارات وطنية» مع أحزاب السلطة، لكنه يعود أيضاً إلى استفادته من شعبية المرشّح المنهزم في الدورة الأولى للانتخابات التشريعية، الصافي سعيد، الذي ترشّح أيضاً على قوائمها النيابية. تُحسب «حركة الشعب» على اليسار، لكنها تتمايز عن غيرها من الأحزاب اليسارية بوجود نَفَس محافظ اجتماعياً في خطابها. على عكسها، يتبنّى حزب «التيار الديموقراطي» خطاباً اجتماعياً تقدّمياً، يشمل مثلاً الدفاع عن المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، وقد حقّق حوالي 15 مقعداً. ويعود صعوده إلى عمل دؤوب في المعارضة داخل البرلمان وفي الشارع، كما يبدو أنه استفاد من أزمة اليسار الماركسي مُمثّلاً في «الجبهة الشعبية» التي انقسمت إلى شقّين لم يحصّلا مجتمعَين إلا مقعداً واحداً.
من جهته، حصّل «الحزب الدستوري الحرّ»، الذي تتزعمه عبير موسي ويتبنّى خطاباً مدافعاً عن نظام زين العابدين بن علي، حوالي 15 مقعداً، وسيدخل البرلمان للمرة الأولى منذ تأسيسه بعد الثورة. أما قوائم «عيش تونسي»، التي صَرفت عبر جمعية تحمل الاسم نفسه ملايين الدولارات في عمليات استطلاع رأي وحفلات عامة وشراء ولاء فنّانين ونشطاء، فلم تتجاوز حصيلتها 5 مقاعد. وحصّلت بعض الأحزاب الأخرى، مثل حزب «تحيا تونس» الذي يرأسه رئيس الحكومة الحالي وحركة «نداء تونس» الفائزة في الانتخابات الماضية، بضعة مقاعد غير مؤثّرة، فيما تشتّتت بقية المقاعد بين عدد كبير من القوائم المستقلة (قد تتخفّى وراء بعضها أحزاب).

أيّ أفق للتحالفات؟
يقول الدستور إن رئيس الجمهورية يكلّف مرشح الحزب أو الائتلاف الحائز على أكبر عدد مقاعد في البرلمان بتشكيل الحكومة. المشكلة الأكبر التي تواجه «حركة النهضة» الفائزة هي تحصيل أغلبية داعمة، تبلغ 109 نواب على الأقلّ. وأعلنت الحركة مبكراً أنها لن تتحالف مع حزب «قلب تونس» لـ«وجود شبهات فساد حوله»، فيما أعلن هذا الحزب أيضاً رفضه التحالف مع الحركة لـ«وجود شبهات بتورّطها في قضايا» مثل الاغتيالات السياسية. من جهتهما، رفض كلّ من «حركة الشعب» و«التيار الديموقراطي» التحالف مع أيّ من الحزبين المتصدّرَين، وأعلنا أنهما سيكونان مبدئياً في المعارضة، فيما رفض «الحزب الدستوري الحرّ» التحالف مع «النهضة». بهذا، نكون أمام مشهد شديد التعقيد. لم يعلن أحد استعداده للتحالف مع «النهضة» باستثناء «ائتلاف الكرامة»، ما يترك لها هامش مناورة محدوداً لتشكيل تحالف واسع، ويجعلها مضطّرة لمحاولة جمع شتات النواب المستقلين وبعض الكتل الصغيرة في حال أرادت تشكيل حكومة.
احتمال نجاح سيناريو جمع أطراف كثيرة حول «النهضة» ضئيل، وذلك لصعوبة تحقّقه أصلاً، ولاستحالة المحافظة على تناغم التحالف في حال تحقّق. تشير التجربتان النيابيتان السابقتان في تونس إلى إمكانية تشكل تحالفات جديدة وانشقاق عدد كبير من النواب وانضمامهم إلى أحزاب أخرى، لكن هذا لم يحصل مع «النهضة»، بل مع أحزاب وكتل أخرى، وبعد تقديم مغريات مالية وسياسية ضارّة على المدى المتوسط. بناءً عليه، يوجد سيناريوان أكثر احتمالاً: إما العجز المزمن عن تشكيل حكومة وبالتالي حلّ البرلمان وعقد انتخابات تشريعية مبكرة، الأمر الذي سيتطلّب أشهراً ويبدو غير مضمون العواقب بالنسبة لأغلب الأحزاب؛ أو تشكيل حكومة تكنوقراطية يدعمها طيف واسع من الخصوم على أساس برنامج يتفقون حوله. يبدو الاحتمال الأخير الأكثر ترجيحاً، نظراً إلى أنه يضمن للأحزاب الحفاظ على ما حصّلته، كما أن بعض الأحزاب بدأت في اقتراحه، ولو باحتشام، على غرار «التيار الديموقراطي».