لا يفكّرون بعقولهم. لم تعد القضايا العامة مهمّة بالنسبة إليهم. مصالحهم الشخصية أولاً، وليأتِ ما يأتي بعدها. هذا وصفٌ عام لأصحاب القرار السياسي في العراق، فماذا يُنتظر بعد؟ الأطراف المتشابكة في الطبقة السياسية المتحكّمة بالبلاد يتربّص بعضها ببعض، وكأنها في حلبة صراع دِيَكة، كلّ منها يبيّت نوايا ضد الآخر. الدول الإقليمية تراقب وتتحرك مباشرة أو عبر وسائلها المتعدّدة. السفارات لا تكتفي بالتفرّج على الأوضاع الداخلية. الزيارات العلنية والسرية لمسؤولي الدول الكبرى تضع العملية السياسية برمّتها أمام تحدّيات، والأمور مكشوفة وتسخن على صفيح معلن. خطط متداولة وبرامج مرسومة قد تتكرر كمأساة أو مهزلة، إلا أنها معروضة ومعروفة. رغم ذلك، السيناريوات المتوقّعة لا يُختلف عليها، وأدواتها متوفّرة وجاهزة. منذ أشهر يُحضَّر لما يحصل، بالأسماء والشعارات والأهداف. تجمّعات وجبهات، عسكر وتحرّكات، تنقّلات واجتماعات، تجهيز وسائل إعلام وتواصل اجتماعي وبيانات وتحليلات، مراقبون متابعون وخبراء متفنّنون. وفي الواقع، مياه كثيرة تجري في نهر الحياة اليومية. قبل الأول من تشرين الأول/ أكتوبر نُشرت دعوات وتهيّأت منصّات. لا أحد يمكنه إنكار ذلك مهما كانت الأسباب، تماماً مثلما لا يمكن التغطية على الفساد المالي والإداري، وسوء الخدمات والبطالة، وانتشار الفقر والمرض والجهل، واتساع الهوّة الاقتصادية بين الفئات الاجتماعية وآثارها المباشرة على الفئات العمرية. هذه وغيرها من الحقائق تُعرض وتناقَش في العواصم الكبرى، حيث تخرج تهديدات لأي خطوة تكسر الاتفاقيات المبرمة، والنصائح المُسجّلة، أو تضرب الخطط التي سُهر عليها، والتي تُسمّى بالخطوط الحمراء.
الطبقة السياسية المتحكّمة بالبلاد يتربّص بعضها ببعض وكأنّها في حلبة صراع دِيَكة


كل الحراكات الاجتماعية الجديدة في العراق لها مبرّراتها، من أيام الغزو والاحتلال إلى يومنا هذا. خطط الغزو والاحتلال، ومنها العمليات الملوّنة، هي لأهداف مرسومة ومعلومة للجميع. حتى الحمقى يدركونها ويتجاهلونها، ويعملون مثل الاحتلال على تعميق الفتنة، ويتسابقون على الغنائم قبل فوات الأوان. جميع الحراكات تبدأ بمطالب مشروعة، تنطلق عفوياً ومن دون قيادة، ولكنها تتعرّض دائماً لمن ينسبها إليه أو يضلّل بها أو يندسّ فيها. لا اختلاف على مطالبة الشباب بوطن حرّ مستقل سيد ديمقراطي. من لا يريد ذلك؟! ولكن بعد كل سنوات الغزو والاحتلال ما هي الدروس والعبر؟ هل يمكن أن يقتنع أحد بأن الغزاة والمتخادمين معهم يهمّهم ما جرى وحصل، وتعنيهم الحرية والكرامة والديموقراطية؟
أمام ما حدث، لا بدّ من الانتباه إلى التدخّلات الخارجية، ولا سيما من السفارات. ثمّة كلام منمّق، لكنه كالسمّ في الدسم. لنقرأ ما تكتبه السفارة الأميركية في بغداد على موقعها الإلكتروني أو على وسائل التواصل الاجتماعي. مثلاً، تعرب عن أسفها لاستخدام العنف ضد المتظاهرين، داعية إلى تخفيف حدّة التوتر فى البلاد، مشيرة إلى أن التظاهر السلمي حقّ أساس في جميع الأنظمة الديموقراطية، ولكن لا مجال للعنف في التظاهرات من قِبَل أيّ من الأطراف. هكذا، تواصل تغيير برامجها وتحذير رعاياها ومراقبة ما يحصل وكأنها حمل وديع. من جهته، يشدد السفير البريطاني لدى العراق، جون ويليكس، على ضرورة تلبية «مطالب المتظاهرين المشروعة في تحقيق الإصلاح»، لافتاً في تغريدة على «تويتر» إلى أهمية توفير فرص العمل وتحسين الواقع الخدمي في البلاد، مطالباً القوات الأمنية العراقية بضبط النفس في التعامل مع المتظاهرين. ومثل ما سبق، يأتي دور الممثلة الخاصة للأمم المتحدة، جينين هينيس - بلاسخارت، فتلتقي متظاهرين، ويُبرَّر عملها بتقديم المشورة والدعم! تقول هينيس - بلاسخارت عن المطالب التي قدمها لها من التقت بهم: «هذه مطالب مشروعة وقائمة منذ أمد طويل. إن الحوار المباشر لمناقشة سبل المضيّ قدماً وتحقيق نتائج فورية وملموسة يكتسي أهمية كبيرة». وإذ تحثّ على ممارسة أقصى درجات ضبط النفس في التعامل مع الاحتجاجات، وإتاحة المجال للمتظاهرين المسالمين للتعبير عن آرائهم بحرية في إطار القانون، فهي تحذّر من تسلّل جهات ذات برامج سياسية أو أجندات أخرى إلى هذه التظاهرات ما يقوّض هدفها الرئيس (من أين لها المعرفة بالتسلّل والاندساس والأجندات؟).
هل تلك المواقف في حبّ الشعب العراقي ومطالبه العادلة والمشروعة؟ إذا كانت كذلك، فلماذا عرقلةُ معالجة عُقد المطالب كلّ هذه السنوات؟ أسئلة متكرّرة وكثيرة، وكثير من الأجوبة معلوم وواضح، والحراك الغاضب مهما كانت حدّته تُسلّط الأضواء عليه، ويطرح علامات استفهام حول التدخّلات الخارجية ومصالحها وأهدافها. لا يمكن أن يكون هؤلاء حريصين على دم العراقيين، وصادقين في أقوالهم. لا لحراك ملوّن غير وطني. نعم لحراك عراقي تقدمي من أجل التغيير الحقيقي ودولة القانون والمواطنة والحريات والحقوق والكرامة الإنسانية.