حركة الاحتجاج الشعبي التي تشهدها الجزائر منذ 22 شباط/فبراير الماضي لا تزال تتمحور حول ما تعتبره وصاية الجيش على الحياة السياسية. هي انطلقت بداية لتعبّر عن رفض الولاية الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، واستمرت ضد تمديد الرابعة، وهو مطلب استجابت له قيادة الجيش، لتتواصل بعدها تحت شعار انسحاب العسكريين من الساحة السياسية وإدانة تنظيم الانتخابات. في هذا السياق الذي يبرز فيه التوتر بين الحراك والجيش وتنعدم خلاله الرؤية الواضحة لمستقبل المسار الانتخابي، ازداد رَواج فرضية وجود انقسامات تهدد وحدة المؤسسة العسكرية. محند بيري، وهو أستاذ الفلسفة والمعاون السابق لأحمد محصاص (أحد قادة الثورة الجزائرية)، يرى أن هذه الفرضية تندرج في إطار استراتيجية سياسية تهدف إلى شلّ قدرة قيادة الجيش على الفعل والمبادرة.يعتقد بيري أن فرضية حدوث انقسامات داخل الجيش بدأت تشيع منذ أيار/مايو الماضي، بعد اعتقال مجموعة من الشخصيات السياسية. يقول: إنه في الفترة التي تلت اللقاءات التي عقدت في آذار/مارس الماضي، التي طلب فيها «الجنرال توفيق»، بموافقة سعيد بوتفليقة، من الرئيس الأسبق اليمين زروال، قيادة هيئة رئاسية مؤقتة، قررت هيئة الأركان مواجهة هذه المناورة غير الدستورية، التي كانت تكراراً مقنّعاً لتمديد الولاية الرابعة، مع مسعى خطير لتهميش الجيش تماماً. في أول أيار/مايو، اعتقل الجنرالان توفيق وترتاغ، وسعيد بوتفليقة ورئيسة حزب العمال التروتسكي، لويزة حنون. حكمت عليهم المحكمة العسكرية بالسجن 15 عاماً. منذ هذا التاريخ أيضاً، تُطلق الشعارات المناهضة لقايد صالح في مظاهرات الجمعة من جماعات مرتبطة بـ«التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية»، أو «جبهة القوى الاشتراكية»، وهما نواة الحالة المُطالبة بالمرحلة الانتقالية، أي المعارضة للانتخابات الرئاسية التي ينص عليها الدستور، يضيف بيري.
ازداد رواج فرضية وجود انقسامات تهدد وحدة المؤسسة العسكرية


رغم صلاته ببعض أوساط الأوليغارشية المالية، كيسعد ربراب، المعتقل اليوم، وبوسائل الإعلام، بما فيها الأجنبية والفرنسية خاصة، وببعض شبكات جهاز الأمن العسكري السابقة، بقي هذا التيار الأيديولوجي والسياسي هامشياً. يشير بيري إلى أن «سعيد سعدي، الرئيس السابق للتجمع من أجل الثقافة والديموقراطية، حصل على أقل من 2% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية سنة 2004، وجميع الأحزاب المنتمية إلى هذا التيار تراجع تأثيرها في المجتمع، بما فيها منطقة القبائل، معقلها الأساسي إن لم يكن الوحيد». إذن، «لا طاقة له على رفض نتائج الانتخابات الرئاسية». ويوضح أستاذ الفلسفة أن هذا الواقع سبق أن تجلّى في الانتخابات التشريعية سنة 1991، التي فازت خلالها «جبهة الإنقاذ» الإسلامية بغالبية مقاعد البرلمان. وتلا إعلان نتائج الدورة الأولى من هذه الانتخابات تنحية الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد من منصبه، وإلغاء العملية الانتخابية واستيلاء الجنرال خالد نزار ومجموعته، وضمنها الجنرال توفيق على السلطة. «إذا كان تورّط التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية في المأساة التي عرفتها الجزائر بعد هذا الانقلاب معروفاً وموثقاً، فإن دور جبهة القوى الاشتراكية أقل انكشافاً بسبب لعبتها المزدوجة. يذكر كثيرون أن الجبهة كانت حزباً وفاقياً لكنهم ينسون أنها نظّمت تظاهرة كبرى في الجزائر العاصمة مباشرة بعد إعلان نتائج الانتخابات، تحت شعار لا دولة بوليسية ولا دولة أصولية، ما شجّع هيئة الأركان يومها على وقف المسار الانتخابي».
إستراتيجية هذا التيار اليوم هي الوصول إلى السلطة عبر «الانتقال التأسيسي» (التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية) أو «الجمعية التأسيسية» (جبهة القوى الاشتراكية وحزب العمال). بكلام آخر: تشترط هذه الأحزاب للمشاركة في الانتخابات الرئاسية عقد جمعية تأسيسية في الجزائر تماشياً مع مطالب الحراك. هذه المقاربة التكتيكية التي لم تفضِ إلى رفع معدّلات شعبيتها، ما حدا بها إلى نشر معلومات عبر مثقفين أو ناشطين سيبرانيين أو وسائل الإعلام تعزز فرضية وجود انقسامات في الجيش، وهو ما يخدم استراتيجيتهم السياسية. يعتقد بيري أن غايتهم هي «التشجيع على إطاحة قيادة الجيش الحالية، كما اتضح من الاجتماعات بين سعيد بوتفليقة وتوفيق وترتاغ وحنون، في أحسن الأحوال، أو على الأقل التسبّب في انقسامات داخل مؤسسة الجيش تؤدي إلى تكبيل وشلّ هذه القيادة». بموازاة ذلك، يدعو قطاع واسع من التيار المذكور منذ نهاية الصيف إلى العصيان المدني، بنية إثارة صدام مباشر بين الشعب والجيش. فشلت هذه المحاولة كسابقاتها. ويجزم بيري بأن «افتعال التوترات داخل الجيش لشلّ قيادته أو محاولة إزاحتها هو أقصى ما يمكن أن تذهب إليه هذه الأحزاب في مناوراتها. وهي لا تتردد في استغلال بعض الموارد الأيديولوجية الكثيرة الاستخدام، كورقة الخصوصية الاثنية القبائلية، التي تقدم على أنها مسألة ثقافية، وتثير شكوكاً متزايداً لدى جماهير القبائل. أو يلجؤون إلى الحجة المستهلكة عن الدور السياسي لهيئة الأركان الذي يحظّره الدستور من دون الإشارة إلى المواد التي تنص على مثل هذا الحظر».
في مواجهة هذه المناورات، تستند هيئة الأركان في سياستها إلى أسس دستورية، ولكن استراتيجيات زعزعة الاستقرار تستفيد من التجاهل المتعمّد للصلاحيات الفعلية للجيش التي ينص عليها الدستور ولمداها. فالبند 28 من الدستور يفيد بأن «مَهمة الجيش الدائمة هي حماية الاستقلال الوطني والسيادة والدفاع عن وحدة البلاد الترابية». وهنا يجزم بيري بأن «مَهمة الجيش تتضمن الرد على أي عدوان أو تهديد للاستقلال والسيادة. أليس ما نشهده في الأشهر الأخيرة مساعيَ منافية للدستور، للاستيلاء على السلطة أو للتسبب بفراغ مؤسساتي؟ وتندرج في هذا الإطار دعوة لهواري عدي لتعطيل الانتخابات المقبلة». وهو أيضاً مقتنع بأن محاولات تعطيل الانتخابات الرئاسية المقرّر إجراؤها في كانون الأول/يناير المقبل ستفشل لأن الجيش متمسك بالشرعية الدستورية وأقوى تماسكاً مما كان علية في التسعينيات، ولأن المجتمع الجزائري في غالبيته يخشى الدخول في مرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر. ويضيف: «نسبة المشاركة في الانتخابات القادمة ستكون منخفضة على الأغلب، خاصة وسط البلاد. لكن هذا الأمر ليس جديداً في الجزائر ولا استثنائياً في الدول الديموقراطية بما فيها أعرقها».