قطعت مجزرة الأُبيّض الطريق أمام استئناف المفاوضات التي كانت مقررة أمس بين المجلس العسكري وقوى «إعلان الحرية والتغيير» في شأن الوثيقة الدستورية، لتعيد إلى الأذهان مرحلة الاحتجاجات الأولى قبل سبعة أشهر ونيف، حين خرج طلاب المدارس في مدينة عطبرة، في 19 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، في تظاهرات تندّد بشحّ «القوت والوقود والنقود». ومثلما واجهت سلطات النظام البائد في حينها التظاهرات باستخدام العنف المفرط، قتلت القوات التابعة للمجلس العسكري ثمانية محتجين بالرصاص خلال تظاهرة طلابية في مدينة الأبيّض، عاصمة ولاية شمال كردفان، الإثنين الماضي، احتجاجاً على الغلاء وانقطاع التيار الكهربائي وشحّ السلع، بما فيها الوقود والخبز، ورفضاً لتقرير لجنة التحقيق المحلية في جريمة فضّ اعتصام القيادة العامة للجيش (راح ضحيتها والحملة التي تلتها أكثر من 130 شخصاً)، والتي تحدثت عن مقتل 87 شخصاً بين يومي 3 و10 حزيران/ يونيو، بينهم 17 شخصاً فقط في ساحة الاعتصام يوم فضّه.لم تلغ قوى «الحرية والتغيير» المفاوضات إثر الجريمة، بل أرجعت إرجاء الجلسة المقررة إلى توجّه وفد التفاوض إلى مدنية الأبيّض للعزاء بضحايا الاحتجاجات، مؤكدة أن الوفد «سيعود إلى الخرطوم مساءً (أمس)» ليتم تحديد موعد جديد، بحسب ما أفاد به المفاوض في حركة الاحتجاج، ساطع الحاج، مضيفاً أن «الوسيط الأفريقي سيحدد موعداً جديداً لجلسة التفاوض المخصصة لمناقشة الإعلان الدستوري»، فيما قال قيادي آخر (لم يذكر اسمه) إن المحادثات «ستُستأنف عندما يهدأ الشارع»، معتبراً أن «الحوار هو السبيل الوحيد لتحقيق اختراق». وبينما لم يحمّل التحالف المعارض، صراحةً، المجلس العسكري مسؤولية الجريمة، واتهم الجيش وقوات الأمن بفتح النار على تلاميذ المدارس الثانوية، وجّه متظاهرون ــــ في احتجاجات طلابية دعت إليها «الحرية والتغيير» ــــ أصابع الاتهام إلى قوات «الدعم السريع» التي يقودها نائب رئيس المجلس محمد حمدان دقلو، الملقب بـ«حميدتي»، بإطلاق النار على مراهقين وقتلهم.
ظلّ التحالف المعارض على تأكيده أن «الحوار هو السبيل الوحيد لتحقيق اختراق»


«ما حدث في الأُبيّض أمر مؤسف وحزين، وقتل المواطنين السلميين غير مقبول ومرفوض وجريمة تستوجب المحاسبة الفورية والرادعة». الكلام لرئيس المجلس، عبد الفتاح البرهان، على ما ذكر التلفزيون الرسمي أمس، ما يوحي بأن «العسكري» بعيد عن الإقرار بمسؤوليته عن هذه الجريمة، على غرار الجرائم السابقة التي لا يزال كشف ملابساتها معلّقاً على تشكيل «لجنة تحقيق محلية بإشراف أفريقي» كما تطالب الوثيقة الدستورية المعدّة لمناقشتها مع العسكر، علماً بأن عمل اللجنة مرهون هو الآخر بتشكيل حكومة مدنية في إطار اتفاق لتقاسم السلطة بين المجلس والتحالف. هذا التملّص المتواصل يشي بأن محاسبة المسؤولين عن الجرائم أمر بعيد المنال، ليس فقط لأن المتهمين من العسكر يتلقون دعماً إقليمياً من محور السعودية والإمارات ومصر، أو لكونهم يقودون ميليشيا قادرة على إشعال حرب أهلية، بل لغياب هياكل الدولة ذات الثقة بالنسبة إلى «الحرية والتغيير» ومن تمثل في الشارع، وغياب الإرادة الدولية. لكن الجريمة الأخيرة التي استهدفت أطفالاً وفق تصنيف القانون الدولي، لكون أعمار المتظاهرين تراوح بين 15 و17 عاماً، بحسب ما أعلنت «منظمة الأمم المتحدة للطفولة» (يونيسيف) أمس، قد تنعكس ضغوطاً على المجلس، تعيد الطرفين إلى طاولة المفاوضات، وهو ما بدا أن السفارة الأميركية في الخرطوم بدأت به، باعتبارها أن «العنف في الأبيّض يجعل تشكيل حكومة انتقالية أكثر إلحاحاً».
لكن العودة إلى طاولة المفاوضات تعترضها عقبات أكبر وأوسع، على رغم التوصل إلى اتفاقات كثيرة في شأن هياكل السلطة الثلاثة ونسب كل طرف فيها، كما في «المجلس السيادي»، إذ ثمة نقاط كثيرة عالقة تجعل أساس المشكلة قائماً، من سبيل المناصفة المعتمدة في عضوية المجلس المذكور، وترك عضو حادي عشر يرجح كفة أحد الطرفين لاتفاق بينهما بحسب الوثيقة الدستورية التي أعدّتها «الحرية والتغيير». أيضاً، ثمة خلافات حول صلاحيات «السيادي» الذي سيرأسه العسكر للـ21 شهراً الأولى من الفترة الانتقالية. كما أن هناك خلافاً على مبدأ تشكيل مجلس تشريعي، ما دفع المتفاوضين إلى إرجاء المناقشات في شأنه إلى ما بعد تكوين «السيادي» والوزراء. وكثير من هذه النقاط تم الاتفاق عليها سابقاً، وها هي تطرح على الطاولة مجدداً لإعادة التفاوض حولها، ذلك أن الأزمة تكمن في سؤال «من سيحكم السودان؟»، وهو الأمر الذي لا يبدو إلى الآن أن العسكر مستعدّ للتنازل فيه.