ينطوي كلام رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، حول عدم وجود قوة بديلة من إسرائيل لمنع سقوط المنطقة بأيدي إيران وحلفائها، على أكثر من رسالة. يُجمل هذا الموقف القراءة الإسرائيلية لمسار التطورات في المنطقة، ويؤشر إلى الدور الوظيفي الذي انتهى إليه الكيان بعد التحولات المفصلية التي شهدتها بيئته الاستراتيجية. تباهى نتنياهو بأنه أدلى بهذا الموقف أمام وفد من الصحافيين العرب المنتمين إلى دول ليس لديها ــــ باستثناء واحدة ــــ علاقات رسمية مع إسرائيل، ومعتبراً زيارة هذه العينة من الصحافيين إلى الكيان تعبيراً عن اتساع نطاق الداعين إلى التطبيع، واصفاً ذلك بـ«التطور الرائع والتحول الهائل».لا تخفي إسرائيل دورها الوظيفي، بل تتباهى به وتصرّ على تظهيره والترويج له. فقد سبق لنتنياهو أن أشار أكثر من مرة إلى أن إسرائيل تشكل خط دفاع عن أوروبا. ويعود الإصرار على هذا التوصيف إلى كون الأخير مرتبطاً بفلسفة وجودها، ومعزّزاً لصورتها كشرطيّ للمعسكر الغربي في المنطقة، وعلى رأسه الولايات المتحدة، من أجل دعمها على مختلف المستويات. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما قاله نتنياهو خلال زيارته حاملة الطائرات الأميركية «جورج بوش» التي رست قبالة حيفا في عام 2017، حيث شبّه إسرائيل بحاملة طائرات أميركية في المنطقة: «حاملة الطائرات الرائعة هذه عبارة عن جزيرة أميركية عائمة، وترمز إلى الحرية والنصر في نظر العالم... إسرائيل أيضاً تمثل بالنسبة إلى العالم الحرية والنصر، وهي أيضاً تساعد في حماية العالم من الإرهاب، كما تقف أيضاً في طليعة الصراع ما بين الحضارة والظلام. تتشاطر إسرائيل وأميركا نفس القيم ونفس الرؤية».
مع ذلك، فإن قول نتنياهو إنه لا بديل من قوة إسرائيل لمواجهة إيران وحلفائها في المنطقة يؤشر إلى إقرار بتراجع الدور الأميركي، وفشل الأنظمة الإقليمية التابعة للمعسكر الغربي في هذه المهمة، حتى لو عاد وأتبع كلامه بأن «الولايات المتحدة هي القوة الخارجية التي تضمن عدم وقوع الشرق الأوسط في أيدي تلك القوى». فلو كان هناك دور أميركي فعال يمكن الرهان عليه، لما بادر إلى الحديث عن دور إسرائيلي حصري في ما سمّاه «منع انهيار» الشرق الأوسط، في إشارة إلى محاولة منع استكمال انتصار محور المقاومة على مستوى المنطقة. كذلك، يشي كلام نتنياهو بإدراك تل أبيب مفاعيل تساقط الكثير من خطوط الدفاع التي كانت تراهن عليها، وخصوصاً في ظلّ التورط السعودي في حرب اليمن، وانتهاج تركيا خياراً تصالحياً مع إيران.
موقف رئيس وزراء العدو يؤشر إلى إقرار بتراجع الدور الأميركي


لكن الدور الوظيفي الذي يروّج له نتنياهو في هذه المرحلة، يتميز بخصوصية كونه محاولة لتقديم إسرائيل كقوة إقليمية تستند إليها الأنظمة الخليجية، بعد الانتصارات التي حققها محور المقاومة، وهو ما يؤكد على حقيقة الاصطفافات في المنطقة. في المقابل، ينبغي الانتباه إلى حقيقة أن إسرائيل تمارس أيضاً عملية تضليل تهدف إلى استدراج العديد من الأنظمة والشرائح الشعبية، كي تكون خطوط دفاع لحماية أمن الكيان ووجوده، تحت شعار المصالح المشتركة. وتؤكد عقود من الصراع مع إسرائيل حقيقة أنها كيان يرسم خياراته وأداءه بما يتلاءم مع خلفياته الأيديولوجية ومصالحه الاستراتيجية، حتى عندما يتعلق الأمر بتنفيذ دور وظيفي في سياق استراتيجية أميركية، فكيف عندما يكون الطرف الثاني النظام السعودي، أو ما شابه؟ ومن لديه أدنى معرفة بأولويات إسرائيل واستراتيجيتها يدرك أنها لن تعرّض أمنها لأي مخاطر كرمى لعيون آل سعود. لكن النظام السعودي أدى أدواراً تاريخية لم يكن بوسع إسرائيل القيام بها في مواجهة القوى المعادية للأخيرة، وما تغير الآن هو أن هذا الدور بات أكثر انكشافاً، وأكثر إلحاحاً، وأن الكيانين السعودي والإسرائيلي باتا يتصرفان على أنهما في مركب واحد، ومن هنا ينطلق الحديث عن المصالح المشتركة. اللافت أيضاً حديث نتنياهو عن دور مزعوم في مواجهة «داعش»، وهو الذي حذر في أكثر من مناسبة من مفاعيل القضاء على «داعش» كونه سيؤدي إلى تقدم إيران وحلفائها، مبرراً ذلك بالقول إن «التهديد الذي تمثله إيران أخطر بكثير على العالم كله، وفي المقدمة إسرائيل، من التهديد الذي يمثله داعش».
تبقى حقيقة هي الأكثر سطوعاً، لكنها تختفي في طيات موقف نتنياهو، ومفتاحها السؤال عما دفعه إلى الحديث عن عدم وجود قوة بديلة من إسرائيل لمنع انهيار الشرق الأوسط بأيدي إيران وحلفائها؟ الواقع أن كل المسارات التي تجد إسرائيل نفسها مضطرة إلى اتباعها تعود في جذورها إلى سلسلة انتصارات استراتيجية وتاريخية شهدتها المنطقة، وأسّست لمستقبل وصفه نتنياهو بأنه «انهيار الشرق الأوسط»، بدءاً بهزيمة الولايات المتحدة في العراق، وهزيمة إسرائيل في مواجهة حزب الله في لبنان، وصولاً إلى هزيمة كل المعسكر الغربي والإرهاب العالمي والتكفيري في سوريا، وصمود الجمهورية الإسلامية في مواجهة الضغوط الأميركية. ما يراه نتنياهو «انهيار الشرق الأوسط» هو التعبير الإسرائيلي عن «ربيع المقاومة» على مستوى المنطقة. مستقبلٌ يمكن تلمّس مفاتيحه في المعادلة الآتية: إن القوة التي لا بديل منها (كما عبّر نتنياهو) بات عمودها الفقري (كما أعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله) مهدداً بالانهيار، تحت وابل صواريخ حزب الله الاستراتيجية.