كانت قد مرت مدة غير قليلة على بدء عمليات تحرير مدينة الموصل. على مدى شهور، خاضت القوات العراقية معارك شديدة لتحرير الجانب الأيسر (القاطع الشرقي) من المدينة، وهو الجانب الأكثر حداثة لناحية التنظيم العمراني. فـ«المدينة القديمة» تقع في الجانب الأيمن، وهي عبارة عن أحياء تاريخية متشابكة الأزقة والمنازل. كان الاعتقاد أن التنظيم سيتمركز فيها؛ باعتبارها المركز الرئيس والقديم للموصل. في شباط/ فبراير 2017، انطلقت عمليات تحرير الجانب الأيمن. محاور التقدم وُزّعت وفق خطة أعدّتها «قيادة العمليات المشتركة»، بمشاركة قوات «الشرطة الاتحادية»، والجيش العراقي، وقوات «الفرقة الذهبية»، و«الرد السريع». قضت الخطة أن يتم الهجوم من الناحية الجنوبية الشرقية، ليُدفع بمقاتلي التنظيم نحو الأحياء الشمالية للمدينة، لأن «المدينة القديمة» عبارة عن منازل متراصّة، وأزقّة ضيقة لا يمكن للآليات أن تدخلها، ولا يمكن استخدام قذائف «الهاون» أو القصف المدفعي أو طيران الجيش فيها. تلك المنازل بُني واحدها على هرم الآخر؛ يكفي بأن يُضرب أي منها لتتهاوى البقية كقطع «الدومينو». لذلك، كان من الأسلم دفع الإرهابيين نحو المناطق المفتوحة، وخاصة أن «المدينة القديمة» تعجّ بالمدنيين العُزّل، الذين يسهل استخدامهم دروعاً بشرية من قِبَل مسلحي التنظيم.
عوّل «الدواعش» على الصمود داخل تلك الأحياء، مع عجز القوات عن دفعهم خارجها. الكثير من القطعات العسكرية وصلت إلى مداخل «المدينة القديمة» وتوقفت. خلال أشهر ثلاثة، اكتمل حصار المدينة. تقرّر بدء عمليات تحريرها عبر حي المشاهدة شمالاً. ولصعوبة القتال في تلك التركيبة العمرانية، أوكلت القيادة إلى «مكافحة الإرهاب» القتال هناك، وعينها على «الجامع النوري الكبير»، الجامع التاريخي الذي ألقى فيه زعيم التنظيم، أبو بكر البغدادي، خطبته الشهيرة عقب سقوط الموصل (حزيران/ يونيو 2014)، والذي كان لاستعادته أن تمثل رمزية كبيرة، بوصفها إعلاناً لسقوط «دولة الخلافة».
■ ■ ■

تقدّمت القوات نحو «خطوط الصدّ». زرع التنظيم الأحياء بالعبوات الناسفة بشكل كثيف، مع خسارته عنصر الدفاع: السيارات المفخخة؛ لضيق الأزقّة التي تصل أحياناً إلى ما دون المتر الواحد. كان لـ«الجهد الهندسي» دورٌ كبير وصعب. تعيّن على عناصره فتح طرق محدّدة، لتكون سالكة ذهاباً وإياباً. وعلى رغم مشاركتي سابقاً في معارك تحرير المدن، إلا أنه في «المدينة القديمة» بدا أن ثمة شيئاً مغايراً. أصوات المعركة تلفّ كل جانب. المواجهات تدور أحياناً داخل المنزل الواحد، وكثيراً ما كنّا نسمع أصوات الإرهابيين يتحدثون في ما بينهم، لذلك أُجبرنا على السير بشكل سلسلة، يُشرف عليها مقاتلو «الذهبية»، متّبعين آثار الأقدام التي مضت قبلنا.
ظهرت «المدينة القديمة» أشبه بكهف ذي نهاية مبهمة. كلما توغلنا، زادت الطرقات ضيقاً. بُنيت المنازل بشكل عشوائي للغاية. كان صعباً على المقاتلين الاستدلال على الطرق والأزقة. أما قناصو التنظيم، فقد عمدوا إلى التصويب علينا. أوقعوا إصابات بالغة. لذلك، قرر القادة العدول إلى خطة أخرى. بدأ المقاتلون باختراق المنازل واحداً تلو الآخر، من خلال فجوات بين جدرانها. تلك عملية مفيدة للغاية لحمايتهم من القناصين ومن قذائف «الهاون» التي تساقطت على غير هدى!
■ ■ ■

بعد أشهر على انطلاق معارك «الجانب الأيمن»، صارت القنوات الإعلامية تعدّ العدّة لإعلان «النصر». سوّقت لقرب الوصول إلى «المنارة الحدباء» و«الجامع النوري». بثّت الأخبار العاجلة كلّما تقدمت القوات نحوهما. أما في المقلب الآخر، فبدأ التنظيم ببث مقاطع مصوّرة لمقاتليه بالقرب من «الجامع» و«المنارة»، مؤكداً أن «المدينة القديمة» تحت سيطرته. مواجهة ثانية اندلعت. حرب إعلامية وسباق محموم للوصول والسيطرة على المعلمَين.
اقتربت محاور التقدّم من بعضها البعض. بات التماس في ما بينها قريباً جداً. وصلنا على بُعد أمتار من «جامع النوري». تدفّقت العوائل نحو القوات المقاتلة. تمتاز البيوتات الموصلية القديمة بسراديبها. بناؤها عادة موصلية لتخزين المواد الغذائية، والاحتياجات العائلية... وغيرها. عوائل كثيرة علِقت في المنازل لدواع عدة. في كثير من الأحيان، حالت إصابة أحد أفرادها دون تنقل الباقين خوفاً على حياة مصابهم. في هذه الأثناء، صرنا نتنقل بين البيوتات. نزور السراديب.
ثمة منازل تركها ذووها. باتت ملكاً للتنظيم وعناصره الذين تدفقوا إلى عمق «المدينة القديمة»، وخصوصاً بعد الهجوم على الموصل. قضت خطّة الإرهابيين بالدفاع عن أنفسهم داخل «المدينة القديمة». لم يخلُ الوضع من مأساة كبيرة تعيشها العوائل الصامدة هناك.
قربنا من «الحدباء» الشاهقة، وسط تلك البقعة، يجعلها شاخصة. بدا أنها و«الجامع النوري» ثاني «خط صدّ» للتنظيم. لذلك، قررت القيادة حشد قوة كبيرة، وإعداد العدّة لتنفيذ هجوم شامل يكسر الخط المتهاوي تقريباً. تقرّر الهجوم عند السادسة صبيحة 22 حزيران/ يونيو 2017. أثناء الاستعداد (21 حزيران/ يونيو)، تلقينا الخبر الصادم بتفجير «المنارة» و«الجامع» من قِبل عصابات «داعش». جريمة استهدفت طمس معلم أثري عريق في المدينة، فيما كان هدفها الإعلامي تأليب الرأي العام ضد العمليات العسكرية، مع إعلان وكالة «أعماق»، الناطقة باسم التنظيم، «قصف الطيران الأميركي لجامع النوري، والمنارة الحدباء».
سقوط «الحدباء» عكس خسارة التنظيم للمعركة. وتيرة القتال باتت أسرع، وأكثر يُسراً لقواتنا. وجد المدنيون منافذ للهرب نحونا. كانت معلومات القيادة تشير إلى أن «المدينة القديمة» تضم 3000 إرهابي تقريباً، وفي المربع الأخير لم يتبقّ سوى 900 منهم. شارع واحد يترامى على حافتيه ما يقارب 30 منزلاً، مع بعض الأزقة الضيقة.
■ ■ ■

في تلك المرحلة، أبلغ القادة العسكريون، رئيس الوزراء (السابق) حيدر العبادي، بالمجيء إلى الموصل لإعلان النصر، كما اعتاد في المدن السابقة. فوجئ عند مجيئه بإخباره عن المربع الأخير، والذي يحتفظ «داعش» بالسيطرة عليه. انتظر العبادي ثلاثة أيام في مقرّ قيادة العمليات. في كل يوم، أُثيرت التساؤلات عن سبب «تأخّر بيان النصر». كان الموقف مُحرجاً لرئيس الوزراء والقادة العسكريين والإعلام.
مساء الـ 10 من تموز/ يوليو 2017، أعلن العبادي برفقة القادة العسكريين، وأمام عدد كبير من الإعلاميين، تحرير الموصل والقضاء على التنظيم الإرهابي. صباح اليوم التالي، انطلقنا إلى الخط الأول للقتال. لم يكن الوصول إلى هناك سهلاً. السراديب والبيوتات في المربع الأخير لم تُطهّر تطهيراً كاملاً. الركام يملأ الأزقة. جثث الإرهابيين تنتشر بكثرة هناك. أغلبها يحمل حزاماً ناسفاً. بعد البحث والتجوال، عثرنا على «مضافة» تابعة للتنظيم خاصّة بالإعلام. عثرنا داخلها على معدات وحواسيب محمولة. ما يثير الدهشة أن تلك الأجهزة حوت فيديوات كثيرة لأفلام سينمائية من إنتاج «هوليود»: مشاهد قاسية كالقتال والذبح والحرق وغيرها... بعد ربط تلك المقاطع مع إصدارات التنظيم المرئية، وجدنا تشابهاً كبيراً في ما بينها!
*إعلامي عراقي رافق القوات الأمنية أثناء تحرير «المدينة القديمة» في الموصل