التحالف قابل للحياة طالما استمرّ الدعم السعودي
بعد عام 2011، ظهر إلى العلن في عدد من الدول العربية تيار سلفي متمايز عن بقية الفاعلين الإسلاميين، بتشديده على ضرورة طاعة الحاكم وتحريم الخروج عليه. عُرف أنصاره باسم «المداخلة»، نسبة إلى الشيخ السعودي، ربيع المدخلي، الذي يمثّل أبرز مراجعهم، على رغم رفضهم هذه التسمية. تبنّى أنصار التيار توجهات مختلفة في كل بلد، تراوحت بين حصر نشاطهم في المجال الدعوي، والانخراط في السياسة عبر تشكيل أحزاب ورفع السلاح في الصراعات الأهلية. في هذه المقابلة، يشرح الباحث الليبي، بشير الزواوي، تحولات «التيار المدخلي» في ليبيا، والتي قادته ليصبح فاعلاً عسكرياً مؤثراً ومثيراً للجدل.

زمن حكم معمر القذافي، لم يكن وجود «التيار المدخلي» بارزاً للمراقبين من خارج ليبيا، لكن مقابلة الساعدي القذافي مع قناة «العربية» السعودية، وما تلاها من فتاوى استصدرها النظام من عدد من شيوخ التيار بحرمة الخروج في تظاهرات، جذبت الأنظار إليه. كيف نشأ هذا التيار في ليبيا؟ وهل دعمه النظام أم أجنحة داخله فقط؟ وهل كان للسعودية دور في ذلك؟
نعم، لم يكن للتيار المدخلي ظهور قوي في ليبيا قبل الثورة عام 2011. لقد بدأت بوادر ظهور هذا التيار بشكل بسيط عبر محاولات نظام القذافي إيجاد فكر مضاد للفكر الجهادي الذي كان منتشراً بقوة في ليبيا، والذي خاض عدة جولات من الصراع مع حكم العقيد. ليس هناك دليل مثبت على اتصال مباشر بين قادة الفكر المدخلي في السعودية ونظام القذافي، لكن يشاع أنه تواصل معهم عبر وسطاء لنشر الفكر السلفي كبديل للفكر الجهادي. ويبدو أنه يوجد دعم من النظام، ضمنياً على الأقل؛ فإحدى الوثائق التي اطلعت عليها، وهي تعود لجهاز الأمن الداخلي، تشير إلى عدم اعتقال أتباع هذا الفكر باعتبارهم «غير مؤذين». تقول الوثيقة إن عنصر أمن وجد أحد السلفيين يعمل في صيدلية، ووصفه بأنه مقصّر الإزار ويطيل لحيته، وقد اكتفى بنصحه دون اعتقاله أو استجوابه. في عام 2011، ظهر الساعدي بمظهر السلفي، وأثنى على شيوخ هذا التيار وكتبهم ومنهجهم، كما ظهر أحد شيوخ طرابلس السلفيين على التلفزيون لدعم النظام، وهو الشيخ مجدي أبو حفالة، لكن بدا في ذلك الوقت أنه كان مجبراً بشكل أو بآخر. أظهر النظام أيضاً بعض الشيوخ الآخرين، لكنهم لم يكونوا معروفين أو ذوي تأثير، وهم صغار السن نسبياً. في 2011، لم يشارك السلفيون بشكل كبير ومنظّم، فقد التزموا الحياد في بداية الثورة بحسب فتاوى عُمّمت عليهم، ثم بدأوا في المشاركة في شهر 4 أو 5، لكن ليس عبر القتال المباشر بل بالقيام ببعض الأعمال اللوجستية، وأهمها حراسة السجون وتعليم السجناء من كتائب نظام القذافي. هذا العمل مهم بالنسبة إليهم، فهم لا يزالون إلى الآن يديرون السجون ويسيطرون عليها، وهي تمثل أحد مصادر استقطاب المزيد من الشباب لدعم التيار.

عقب سقوط النظام، وفي خضمّ الفوضى، ظهرت تشكيلات مسلحة يقودها سلفيون «مدخليّون» في جميع مناطق البلاد تقريباً. كيف حصل هذا التطوّر؟
حتى عام 2012، لم ينخرط السلفيون في العملية السياسية في البلاد، بل عارضوها وقاطعوا الانتخابات لأنهم يعتبرون الديموقراطية كفراً ولا يجوز العمل بها. حاول رئيس الوزراء السابق، علي زيدان، أثناء زيارته السعودية، استصدار فتوى من شيوخ المداخلة تحثّ أتباعهم في ليبيا على المساهمة في انتخابات مجلس النواب الليبي التي أجريت عام 2014. أعتقد أنه لم يكن هناك تنظيمات مسلحة للسلفيين في ذلك الوقت، إنما كان بعضهم منخرطاً ضمن كتائب ومجموعات مسلحة أخرى. مثلاً، نجد أن أشرف الميار، وهو أحد أبرز القادة السلفيين في شرق البلاد الداعمين لخليفة حفتر، كان من ضمن مؤسسي واحدة من أهم الكتائب التي تشكلت عام 2011، حيث كان آمر «سرية الآغا» التابعة لـ«كتيبة 17 فبراير» حتى يوليو (تموز) 2014، حين انضمّ إلى «عملية الكرامة» التي أطلقها حفتر في مايو (أيار) من العام نفسه. وقد كانت أبرز مبررات ظهور التشكيلات المسلحة السلفية المدخلية هي الاغتيالات في بنغازي، حيث اتهم المداخلة كلاً من «أنصار الشريعة» و«كتائب الدروع» بتنفيذها. في هذا السياق، يمكن أن نستذكر تسجيلاً مرئياً لأشرف الميار، يتحدث عن إعدادهم لـ«خطة تقسيم مدينة بنغازي إلى مربعات» وأن «لديهم قوائم بأسماء كل من يعملون في الدروع و أنصار الشريعة»، وأن «كل خريطة عليها بيت فلان وبالوصف والدقة وسوف نقوم بتصفيتهم جميعاً»، وقد وصف خصومه بأنهم خوارج وتكفيريون.
الانضمام إلى أي طرف في الحرب لا يحدده توجه فكري للمجموعة


منذ إطلاق المشير خليفة حفتر «عملية الكرامة» عام 2014، صار يُعتبر من قِبَل أغلب قادة «التيار المدخليّ» وأتباعه «وليّ أمر شرعياً»، مع كل ما يحمله ذلك من آثار عملية. وعلى رغم حظوة هؤلاء المقاتلين لدى حفتر، يبدو أنهم سببوا له إحراجات بسبب ممارساتهم المتزمتة التي تتعارض مع ما يُعلنه من قيم علمانية. برأيك، هل ستستمرّ حالة الودّ بين الطرفين طويلاً، أم أن تحالفهما ظرفي ضدّ عدو مشترك؟
يجب أن نعي جيداً بأن هذا التيار ليس تياراً محلياً مستقلاً. فمن خلال تتبع سلوكه وأدواره خلال الأعوام التي سبقت انطلاق «عملية الكرامة»، سنجد أن هذا التيار يتماهى في سلوكه مع التطورات الإقليمية في المنطقة. فمثلاً في مصر، قام بدعم الانقلاب علي الرئيس المنتخب في ذلك الوقت محمد مرسي، وعزز حضوره السياسي عبر «حزب النور»، وشارك في الانتخابات على الرغم من ادعاء حرمتها. في الفترة الأخيرة، ظهر في مصر توجه بتقليص أو تحجيم دوره، فقد شاهدنا انتقادات واسعة لشيوخه، وأيضاً منع السلطات الدينية في مصر أحد أقطاب التيار، وهو محمد سعيد رسلان، من الخطابة أو التدريس في المساجد، وهو تطور لافت. يوجد أيضاً تعاون واضح بين السلطات غير الشرعية في شرق ليبيا والسلطات الدينية في مصر في المجال الديني، فقد قامت حكومة عبد الله الثني بإرسال ما لا يقلّ عن 35 متدرباً من الشيوخ الشباب إلى الأزهر، عبر ما يعرف بـ«مؤسسة خريجي الأزهر الشريف»، وتم إعطاؤهم دورات مكثفة في الخطابة والتعليم برعاية أعلى الشخصيات في دار الإفتاء المصرية.
هنا، يمكن القول إن السلطات المصرية وحفتر يعدّون بشكل مكثف لاستبدال فكر ديني آخر بالتيار المدخلي، لكن هذا لن يحدث في الوقت الراهن، فحفتر لا يزال في حاجة كبيرة إلى الدعم من قِبَل هؤلاء، فهم يشكلون القوة العسكرية الضاربة في ميليشياته المسلحة، ويقودون الأجهزة الأمنية القمعية التي تتولى عمليات القتل والتعذيب والحبس في المناطق التي يسيطر عليها، وطالما أن عملية طرابلس ما زالت مستمرة، فلا يمكن الحديث عن انفصال بين الطرفين.
رغم ذلك، حدثت هناك مشادات وخلافات ظهر بعضها على السطح. فمثلاً، قام العارف النايض، السفير الليبي السابق في الإمارات، وحليف خليفة حفتر وأحد أكبر داعميه، بانتقاد هذا التيار في أحد مراكز الفكر في روسيا. خلال حديثه، اعترف النايض بشكل مباشر بأن ما يسمى «الجيش الليبي» التابع لحفتر قام بتمويل وتسليح مجموعات سلفية، ومن ضمنها أفراد يحملون الفكر الجهادي، وهو «خطأ كبير» كما قال حرفياً. لكن على الرغم من كل هذا، لم ترْق هذه المناوشات والاتهامات من قِبَل أنصار حفتر للسلفيين إلى حدّ الانقسام، وطالما أن المملكة السعودية تدعم حفتر، فلا يمكن أن يخالف السلفيون توجهات المملكة. لكن إذا ما استقرت الأوضاع، فإنني أتوقع أن يحاول هذا التيار تعزيز وجوده، لكنه سيواجَه بالتأكيد بمزيد من الإنكار من قِبَل حفتر لأن الذي بينهم الآن هو تزاوج آني وظرفي.

على رغم موالاة أغلب السلفيين لحفتر، إلا أنهم موجودون أيضاً في مناطق سيطرة حكومة الوفاق، وأقصد بذلك سرت وطرابلس بالأساس. اليوم، يبدو موقف هذه التشكيلات من الحرب الجارية ضبابياً، ففي العاصمة مثلاً تستمر «قوة الردع الخاصة» في الاضطلاع بأدوار شرطية، لكنها لا تشارك في القتال على عكس ما حصل في مرات سابقة. كيف يمكن تفسير ذلك؟ وكيف تتعامل حكومة الوفاق مع الأمر؟
هذا التيار، شأنه شأن أي تكتل أو تجمع بشري، يضمّ توجهات مختلفة، وإن كانت في مجملها لا تتعدى الحدود المرسومة من قِبَل الشيخ الأكبر أو الإمام الأكبر الأب الراعي لهذا التيار، وهو ربيع المدخلي. لكن في داخل التيار، وفي ليبيا أيضاً، توجد توجهات متعددة، فبعضهم يبدو أكثر التزاماً بتعليمات ربيع المدخلي، بينما يميل آخرون إلى استخدام هذه التعليمات بشكل براغماتي. في شرق البلاد، يدعم التيار حفتر بشكل مباشر، وتوجد في الزنتان (غرب) أيضاً كتيبة سلفية تقاتل مع حفتر وشيخهم يدعى طارق درمان (أبو الخطاب)، وقد قام هذا الشهر بحثّ أنصاره وأنصار الفكر وعموم الناس على «الالتفاف» حول حفتر، وقد قال حرفياً: «هذا هو الحق الذي أدين لله به». يلاحَظ في حديثه أنه استخدم لفظ «التفاف»، وهو ما يتطابق حرفياً مع نص لما يعتبره البعض فتوى ويعتبره آخرون رأياً لربيع المدخلي، يدعو فيه إلى الالتفاف حول حفتر. في كلتا الحالتين، لا يمكن اعتبار كلمات ربيع أو درمان فتاوى، وهذا يضع عناصر ومجموعات أخرى من التنظيم في موقع أفضل لتبرير مواقفهم من الحرب أو دعم حفتر. أُشيع أيضاً أن حفتر في زيارته الأخيرة للمملكة، التي جاءت بعد فشل عملية اقتحام طرابلس وتمت تحت غطاء أداء مناسك العمرة، قد التقى ربيع المدخلي وحاول الحصول على فتوى صريحة لمصلحته، لكن هذا لم يتحقق له.
تشكلت «قوة الردع الخاصة» في طرابلس، ويقودها الشيخ عبد الرؤوف كارة، وهو من منطقة سوق الجمعة (ضاحية شرق العاصمة)، ويبرز فيها أيضاً دور كبير للقيادي محمود حمزة. تضم المجموعة مجموعات أو عناصر من مناطق مختلفة أيضاً، ولها ارتباطات مباشرة بكتائب طرابلس مثل «كتيبة ثوار طرابلس» بقيادة هيثم التاجوري، ولهم عداء مع كتائب من تاجوراء. تعزّز دور «قوة الردع» من خلال تركيزها على مكافحة الجريمة والإرهاب والمخدرات، وهو ما جلب لها أنماطاً من الشرعية والدعم والتعاطف الشعبي، وخاصة وسط طرابلس. من جهة أخرى، هناك اتهامات قوية، ومن قِبَل تقارير محلية ودولية ومنظمات تابعة للأمم المتحدة، لـ«قوة الردع» بالمشاركة في عمليات تهريب البشر والتغلغل في أجهزة الدولة الاقتصادية. تستمدّ «قوة الردع» شرعيتها أيضاً من تبعيتها المباشرة لوزارة الداخلية الليبية، وهي لم تشارك بقوة في «عملية فجر ليبيا» عام 2014، وكانت مساهمتها رمزية، ويبدو أن هذا الأسلوب هو التكتيك المفضل للجماعات السلفية عندما تبدو الرؤية غير واضحة (وهو ما تطبقه الآن في حرب طرابلس) وذلك لضمان البقاء في المشهد.
لكن، يجب أن نعرف أن الانضمام إلى أي طرف في الحرب لا يحدده توجه فكري للمجموعة، بل فرص النجاح والفوائد من الانضمام أو أي أخطار قد تنتج من هذا الانضمام. بعبارة أخرى، لا يعني كونهم سلفيين انضمامهم بشكل آلي إلى جانب حفتر. تسيطر «قوة الردع» على مطار معيتيقة، وهو مطار مدني وقاعدة عسكرية جوية في قلب طرابلس، ما يوفر لها حماية طبيعية من أي تهديدات من قبل أجهزة الدولة الرسمية أو أي جماعات مسلحة أخرى تختلف معها، ويجعلها حريصة جداً قبل اتخاذ أي قرار بالانضمام. خلال فترة المجلس الرئاسي، شاركت «قوة الردع» بشكل مباشر في استقبال فائز السراج، وتوفير الدعم له بصحبة كتائب طرابلس الأخرى، وشاركت معها في طرد الكتائب التي كانت موالية لحكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل. تعزز دور «الردع» بشكل أكبر مع مرور الوقت، ويبدو أن القرار الجدلي الذي أصدره السراج بتفويضها صلاحيات أمنية واسعة وخطيرة كان أكبر الجوائز التي تحصلت عليها. علاوة على ذلك، لا يزال تأثيرها واضحاً إلى الآن في القرارات الأمنية للمجلس الرئاسي، وتحديداً تلك التي يتخذها فائز السراج، فمن ضمن ما أشيع عن تأثيرها مساهمتها في إطاحة رئيس «هيئة الأوقاف» السابق، وتعيين محمد العباني مكانه، وهو أحد شيوخ التيار السلفي المدخلي.