إذا وقفتَ يوماً مقابل بلدة مجدل شمس المحتلّة، في الجولان السوري المحتل، فإن قلبك لن يكفّ عن النبض بوتيرة اختبار القبلة الأولى. يخترق الشريط الرمادي الشائك أمامك، صفوة التلال السمراء والصخور الذهبية. على يمينك جبل الشيخ المرسوم ببقايا الثلج في الأفق، وعليه يجثم موقع مرصد جبل الشيخ المحتل من الجيش الإسرائيلي كالصخرة فوق الصدر.على يسارك، امتداد السفوح وسهول القنيطرة المحاذية للجولان السوري المحتلّ، ومن خلفِك قرية حَضَر. من هنا تبدو «المجدل»، كما يسميها الأهالي، كتلة من البيوت المرشوشة كالقمح فوق تلّة، ملوّنة بالبرتقالي والبنّي، وتودّ حقيقةً لو أنك تستطيع ربطها بحبال، وجرّها إليك.
هنا، في البقعة الأخيرة من الأرض السورية المحرّرة، تقبع عين التينة، أو «وادي الصّراخ».
دَوَّنَ الوادي صُراخ أهالي «الضِفَتين»، حَضَر المحرّرة والمجدل المحتلة، واشتياقهم وأخبارهم وشجونهم عبر مكبّرات الصوت، فاكتسب اسمه منذ 1973.
الحرب المستعرة بين الجيش السوري والمسلحين التكفيريين وبقايا «الجيش الحر» في بلدات محافظة القنيطرة وقراها، عطّلت في العامين الماضيين طقوس الاحتفال السنوي في يوم 14 شباط، ذكرى رفض أهالي الجولان المحتل للهوية الإسرائيلية عام 1982.

هذا العام، حقّق الجيش وقوات الدفاع الوطني واللجان الشعبية التي تسانده تقدماً ميدانياً كبيراً، ما عزّز إرادة الاحتفال وتلاقي أهالي حَضَر وعرنة وبعض المهجّرين من بلدتي جباثا الخشب وخان أرنبة وبعض النازحين من أهالي الجولان في ريف دمشق، بأهالي مجدل شمس وبقعاثا ومسعدة وعين قنيا المحتلة، فيما حرمت صعوبة الوصول إلى حَضَر كثيرين من أهالي السويداء ودرعا ونازحي الجولان في ريف دمشق وسوريين آخرين وفلسطينيين، طقس الصلاة السنوي هذا.
يُحزِّم «الشيخ»/الفتى المهذّب نفسه بالعلم السوري، و«يكرج» نزولاً على الصخور والأتربة بقدميه الصغيرتين، في اتجاه الوادي، و«طاقية» الموحدين الدروز ثابتة فوق رأسه. لن يبتعد «الشيخ» يوسف حسّون، ابن الـ 16 عاماً كثيراً، مئة متر أو أقل ويبدأ حقل الألغام القديمة التي زرعها الجيش السوري منذ زمن طويل، ليبدأ بعده حقل ألغام آخر أعاد الجيش الإسرائيلي زرعه بعد آخر تجمّع جرى هنا في ذكرى نكبة فلسطين قبل ثلاث سنوات، واخترق خلاله شبانٌ فلسطينيون وسوريون الشريط الشائك، وحظي بعضهم بعزّ الوقوف فوق التراب المحتلّ خلف الشريط، وبعضهم الآخر دفع ضريبة شوقه لفلسطين رصاصات غادرة من جنود الاحتلال.

الجولان

هي المرّة الأولى منذ حرب تشرين وما تلاها في حرب الاستنزاف، يأتي أهالي القرى إلى الاحتفال مدجّجين بالسّلاح. ليس لأن السلاح صار هنا أقرب إلى الناس من أسمائهم، فلا يتركونه أبداً، لكنّ مسلحي «جبهة النصرة» وكتائب في «الجبهة الإسلامية» توعّدوا المحتفلين بقصاصٍ «عادل»، وبقصف الاحتفال بقذائف الهاون، واصطياد القادمين على الطرقات، لكنّ ما يعجز عنه الجيش الإسرائيلي في الضّفة المقابلة، وما يمارسه على الأهالي في القرى المحتلة لمنعهم من التجمع على بوابة مجدل شمس، لن يفلح في فعله مسلحو المعارضة السورية ومنع أهالي القرى المحررة.
جواد وأبوه يتبادلان منظارين أحدهما أسود اللون والآخر زيتي. يشير الوالد بيده اليسرى الى رجلٍ فوق حصانٍ أبيض في الجهة المقابلة، يضع كلٌ منهما منظاره على عينيه. تحتهما بأمتارٍ، يتوزّع شبانٌ وشابات ومقاتلون، على «درابزين» أدراج حجرية بنتها الدولة السورية خصيصاً للاحتفال السنوي، ويزدان أغلبهم بالعلم السوري. وخلف الأدراج، قاعة مفتوحة تطوّقها الرايات وتصدح من تحت سقفها أغان شعبية والنشيد السوري.
يعود يوسف من قعر الوادي، والابتسامة تعلو محياه، ولهاثٌ بسيط ينبعث من صدره. لآل حسون والطويل وعبد الله ومصطفى والأعور وبركة وباقي عائلات قرى جبل الشيخ أقارب كثر في القرى المحتلة. أغلب أقارب آل حسون من آل أبو عرار والحلبي ورباح. «منحكي واتس أب» يقول يوسف، وخجل أبناء القرى يطوّق وجهه. كلام الفتى، يكسر الصورة التي رسمتها مطوّلاً في مخيلتك. ومع أن رهبة الجغرافيا تأسرك وأنت ترى الجولان وأهله بالمنظار، إلّا أن ما زرعه فيلم المخرجة اللبنانية نهلة الشهال «طيارة من ورق» في رأسك، قتلته وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة، إذ استعاض الأهالي عن مكبرات الصوت بشبكة الانترنت، للتواصل مع أقاربهم ومعرفة أخبارهم. من عدستي المنظار، ترى أهالي القرى المحتلّة وقد نشروا كراسي حول منصة صغيرة للخطابات، وعلقوا علمين سوريَيَن ضخمين على الجدار الترابي خلفهم، وتوزّعوا شباناً وشابات وشيوخاً وأطفالاً في الحقول المحيطة، يستعملون المناظير هم أيضاً، ويشيرون بأصابعهم إلى المتجمهرين هنا. الحاضرون في المجدل ليسوا من أهالي القرى فحسب، بل يشاركهم عدد من أبناء القرى الفلسطينية التي احتلت عام 1948، ولولا أن الاحتلال يمنع أهالي الضفة الغربية من الدخول إلى الجولان، لأتى كثرٌ من الراغبين إلى هناك، على ما يؤكّد لـ «الأخبار» الأسير المحرر صدقي المقت.
قرى المجدل وبقعاثا ومسعدة وعين قنيا والغجر، هي القرى الوحيدة في الهضبة التي لا يزال سكانها الأصليون يقطنون فيها. في عدوان 1967، هجّر الاحتلال الاسرائيلي أكثر من 300 قرية ومزرعة ومدينتين من سهول الجولان بالمجازر والقصف وحرق البيوت والاعتقالات، ودمّر القرى تدميراً كاملاً. ولم يكن الجيش الغازي قد وصل بعد إلى الجبال التي تتوزّع عليها القرى الباقية، حين دخلت القوات الأممية، فلم يستطع تهجيرها مع إصرار أهلها على البقاء في بيوتهم. اليوم، يعيش حوالى 23 ألف سوري في الهضبة، يرفضون الهوية الإسرائيلية، في بقعة لا تمثل أكثر من 7% من مساحة الأرض التي تمثل المصدر المائي الرئيسي لبحيرة طبريا المحتلة، فيما يعيش حوالي عشرة آلاف مستوطن يهودي في 45 مستعمرة مبنية على أنقاض القرى السورية، أكبرها مستعمرة «كتسرين» المبنية فوق أنقاض بلدة قسرين السورية، وقد أعلنها الاحتلال الاسرائيلي مدينة جديدة في الكيان قبل فترة.

الطريق إلى عين التينة

إن كنت آتياً من لبنان، يمكنك بلوغ حَضَر من شبعا اللبنانية مثلاً، بربع ساعة، لولا الاحتلال الإسرائيلي ولعنة سايكس ـــــ بيكو. وبسبب لعنة الحرب السورية الجديدة، لن تستطيع أن تسلك «أوتوستراد السلام» الدولي الواصل بين دمشق والقنيطرة، فالمعارك مستعرة على أطراف مخيم خان الشيح وجديدة عرطوز، وجيوب المسلحين في مدينة قطنا. ومع أن المعارك لا تزال في أوجها هناك، يسيطر الجيش السوري بالكامل على الطريق الدولي، بعدما استطاع ابعاد المسلحين عنه وتأمينه، ولا يفصل بين الحاجز والحاجز سوى كيلومترات قليلة، تنتشر بينها على التلال مواقع الجيش ومدفعيته، فلا يبقى للمسلحين سوى بعض رصاصات القنص وقذائف الهاون، التي لا تميز المدنيين من العسكريين.
لكنّك عوضا عن ذلك، ستسلك طريقاً موازياً للأوتوستراد، يمرّ عبر مقارّ للفرقة العاشرة في الجيش السوري، لا يستطيع المدنيون سلوكه. الدقائق الـ30 من داخل السيارة فوق أراضي الفرقة العاشرة، ورؤية مدافعها ودباباتها المنتشرة بكثافة وتحصيناتها المخيفة، تجعلك تفهم لماذا لا تزال الفرقة 17 صامدة تحت الحصار في محافظة الرقّة، منذ أكثر من عام ونصف عام. على جانبي الطريق الترابي، نشرت «الإدارة السياسية» في الفرقة المعدّة لقتال الجيش الإسرائيلي، لافتات توجيهية للجنود تحذر من العملاء، وأخرى لرفع معنوياتهم، أكثرها التصاقاً بالذاكرة عبارة «المدفعية آلهة الحرب».
بعد الفرقة العاشرة، تتابع الطريق عبر مدينة سعسع، التي يواجه الجيش فيها جيوباً صغيرة للمسلحين، ومنها إلى مفرق بلدة حَضَر قبل مدينة القنيطرة، قرب مقر قوات الأمم المتحّدة العاملة في الجولان. شجر السماق على جانبي الطريق إلى حَضَر لا يزال يابساً في هذا الوقت من العام، والمسالك التي كانت قبل عامٍ تقريباً محرّمة على سكان البلدة التي يتجاوز عدد سكانها 10 آلاف، باتت اليوم مؤمّنة بنسبة 80% بعد اشتداد عود اللجان الشعبية ونجاح الجيش في إبعاد المسلحين عنها، وحصرهم في جيوب على الشريط الحدودي مع أرض الجولان المحتلّة. دقائق من حضر، تصل إلى عين التينة، عبر المرور بحواجز ونقاط اللواء 90، ويصير ما كان حلماً دائماً، حقيقة، أنت ترى مجدل شمس!

يمكنكم متابعة فراس الشوفي عبر تويتر | @firasshoufi




وهّاب والمقت

حمل الوزير السابق وئام وهّاب متاع رحلة طويلة من لبنان إلى عين التينة، يرافقه محازبون في حزب التوحيد العربي من السويداء ولبنان وجرمانا والجولان، ليلقي خطاباً على المحتشدين على ضفتي البلاد المشطورة. وقف وهّاب، إلى جانب محافظ القنيطرة معن صلاح الدين والعميد وليد أباظة أمين فرع القنيطرة في حزب البعث العربي الإشتراكي خلف المنصّة ومشايخ كُثر من أهالي عرنة وحضر. «يا إخواننا، عندكم حكي قبل ما نبدا؟»، يسأل عريف الحفل عبر مكبّرات الصوت الحاضرين من جهة المجدل، ليجيبه الصوت «طبعاً عندنا كلام»، لينصت الحاضرون لكلمة الأسير المحرّر صدقي المقت من المجدل، يجدّد التأكيد على رفض السوريين للهوية الإسرائيلية ووقوفهم إلى جانب الدولة. وفي كلمته، كرّر ابن بلدة الجاهلية اللبنانية أن الرئيس السوري بشار الأسد سيترشّح للانتخابات الرئاسية المقبلة، وسيفوز. وبعد الكلمة، اعتلى وهّاب «درابزين» الأدراج، وسط مرافقيه وحدّق بمجدل شمس دقائق عبر منظار، قبل أن يناوله أحد الحاضرين علم الموحدين الدروز الوحيد بين الأعلام السورية المرفوعة، فلوّح به.