قرّر تحالف قوى «إعلان الحرية والتغيير» تعليق العصيان المدني الشامل «مؤقتاً» أمس، بعد يومين من شلل الحياة العامة في البلاد، فيما يستمر «المجلس العسكري» في محاولات طي صفحة ما بعد مجزرة فض الاعتصام أمام مقر وزارة الدفاع في الخرطوم يوم الجمعة الماضي، لوقف تداعيات الجريمة داخلياً وخارجياً على موقعه كـ«شريك» في «الثورة»، والعودة إلى طاولة المفاوضات في إطار وساطات إقليمية ودولية ومبادرات محلية، من دون أن يستجيب لأي من الشروط التي أعلنها التحالف المعارض للعودة إلى الطاولة. كل ذلك يضع الأخير في موقف ضعيف بعد خسرانه ورقتي القوة، أولها الشارع الذي لعب دوراً كبيراً في إحراز التقدم النسبي في جولات التفاوض الثلاث السابقة، وثانيها العصيان المدني الذي انتهى أمس دون تحقيق أهدافه المتمثلة في إرساء حكم مدني، في ظل تمكن «العسكري» من تشتيت مواقف قادة الحراك، وإبعاد بعضهم خارج البلاد، مستغلاً غياب الموقف الدولي الفاعل، ومعتمداً على وصاية من محور السعودية ــــ الإمارات ـــــ مصر، الذي يدعم سياسياً ومالياً «الثورة المضادة».وفي ثالث أيام حملة العصيان المعلَّق (اليوم)، ظلت العديد من المتاجر ومقرات الأعمال مغلقة، لكن الحركة بدت أنشط مقارنة باليومين السابقين، بينما لا تزال قوات «الدعم السريع» التي يقودها نائب رئيس المجلس، محمد حمدان دقلو، الملقب بـ«حميدتي»، تجوب شوارع العاصمة متخذة مواقع لها فيها، ما يعني أن المجلس لم يرفع الحصار ولم يسحب المظاهر العسكرية، وهما شرطان من شروط «الحرية والتغيير» لوقف العصيان والعودة إلى المفاوضات. وقد أرجعت قوى «الحرية والتغيير» قرار أمس، في حديث لقيادات فيها إلى صحيفة «الانتباهة» المحلية، إلى «أسباب إنسانية»، عقب «مؤشرات تتمثل في أن بداية الحياة عادت إلى طبيعتها». لكن بقاء المتاريس التي وضعها المحتجون لـ«حماية الأحياء من الاعتداءات الباطشة»، كما قال القيادي خالد عمر، أمس، جعل «وسائل النقل العام بالكاد تعمل، مع إغلاق معظم البنوك التجارية والشركات والأسواق»، كما أكدت نائبة المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، إري كانيكو، من نيويورك أمس. لكن بعض مؤسسات الدولة عاد إليها جزء من الموظفين، بعد اتصال بعض مديري الإدارات بهم، وتهديدهم بالفصل من العمل، كما أكد مصدر مطلع لـ«الأخبار»، تماماً كما سبق وهدد «حميدتي»، ما يعني أن «العسكري» لم يحمِ الحريات العامة، وهو أحد شروط قادة الحراك أيضاً.
استجابت «الحرية والتغيير» لشروط العسكر دون أن تجبره على أي تنازل


يأتي انتهاء العصيان في وقت يسعى فيه «العسكري» إلى طي صفحة مجزرة فض الاعتصام التي راح ضحيتها أكثر من مئة قتيل، عبر تحقيق تقوده لجنة شكلها النائب العام، ولا تثق بها قيادات الحراك التي تطالب بتكوين لجنة تحقيق دولية أو إقليمية، كشرط للتفاوض، إذ اكتفى المجلس بالاعتراف بتورط بعض العسكريين في أحداث العنف، مقدماً «عدداً من منسوبي القوات النظامية» الذين أعلن توقيفهم «كبش فداء» عنه في الجريمة المدانة دولياً، مع أنه كان من شروط قوى «الحرية والتغيير» أيضاً اعتراف المجلس بوزر الجريمة. أما عن الشروط المتبقية، فالتفّ «العسكري» على أحدها وهو إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، بترحيل قادة «الحركة الشعبية لتحرير السودان ــ قطاع شمال» التي تنضوي في تحالف «الحرية والتغيير»، إلى جوبا، «خشيةَ أن تقوم الحركة بتوحيد قوى الحرية والتغيير خلف المطالب التي رفعتها الثورة» كما أعلن نائب رئيس الحركة المفرج عنه، ياسر عرمان، أمس. وبشأن «رفع الحظر عن خدمة الإنترنت» الأخير، تجاهل المجلس المطلب، بل أعلن المتحدث باسمه، شمس الدين كباشي، في مقابلة مع «الانتباهة»، أن الخدمة «لن تعود قريباً لأنها مهدد للأمن القومي».
ما سبق يشي بأن «الحرية والتغيير» استجابت لشروط «المجلس العسكري» المتمثلة في «رفع العصيان المدني»، دون أن تجبر العسكر على أي تنازل بشأن الشروط المذكورة، في حين يلوح العسكر بإجراء انتخابات خلال مدة لا تتجاوز تسعة أشهر. وقد ذهبت قوى الحراك بالفعل لتعد أوراقها لاستكمال المفاوضات التي عُلِّقت على ملفي «المجلس السيادي» و«المجلس التنفيذي»، بوصول مكوناتها إلى توافق كبير حول مرشحيها لـ«مجلس السيادة» ورئاسة مجلس الوزراء، بعد اتفاقها مع المجلس ـــ في جلسات المفاوضات السابقة ـــ على توزيع نسب التمثيل في «المجلس التشريعي» (البرلمان المؤقت)، عبر تخصيص ثلثي المقاعد لقوى «الحرية والتغيير»، كإقرار بتمثيلها الحراك الشعبي، بالإضافة إلى اتفاق على المرحلة الانتقالية بثلاث سنوات. وقد أعلن أحد قياديي التحالف أن «الحرية والتغيير» تعتزم ترشيح ثمانية أسماء لعضوية «الانتقالي»، كما سترشح اقتصادياً بارزاً لرئاسة الحكومة هو عبد الله حمدوك، الأمين التنفيذي السابق لـ«اللجنة الاقتصادية لأفريقيا» التابعة للأمم المتحدة، علماً أن هذا الترشيح نفاه بعض أعضاء «الحرية والتغيير». لكن على العموم، يبدو أن الخطة تقوم على اقتراح طرحه رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، خلال زيارته الخرطوم الأسبوع الماضي بغرض الوساطة، حين اقترح ـــ بحسب وسائل إعلام محلية ـــ مجلساً من 15 عضواً، منهم 8 مدنيون و7 من ضباط الجيش، لقيادة البلاد خلال المرحلة الانتقالية.
لا تبدو الوساطة الإثيوبية وحدها التي كسرت الجمود بين «العسكري» وقوى «الحرية والتغيير»، بل لعب دوراً مطالبات دولية بضرورة العودة إلى طاولة المفاوضات، تمخض عنها وساطات دولية وإقليمية، منها اجتماع في برلين يفترض أن يعقد في الـ21 من الشهر الجاري، كما ذكر موقع «إنديان أوشن نيوزليتر»، ويشارك فيه دبلوماسيين من الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمة «إيغاد» والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والنرويج، بهدف «حث الطرفين على العودة إلى الطاولة» للاتفاق حول تشكيل حكومة انتقالية. لكن بخلاف اجتماع 17 أيار/مايو، ستُدعى مصر والإمارات والسعودية إلى الاجتماع الذي سيسبقه بأيام زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإفريقية، تيبور ناجي، إلى الخرطوم هذا الأسبوع، للاجتماع مع ممثلين عن «العسكري» والحراك، وهو مكلف وفق بيان خارجية بلاده، الدعوةَ «إلى وقف العنف على المدنيين»، وحث طرفي الصراع على «العمل من أجل تهيئة بيئة مواتية لاستئناف المحادثات»، كما سيبحث ذلك في زيارة لاحقة إلى إثيوبيا. وينتظر أن ينضم إلى ناجي السفير السابق دونالد بوث الذي سبق أن شغل منصب المبعوث الخاص إلى السودان وجنوب السودان، عبر توليه منصب كبير مستشاريه، وفق مجلة «فورين بوليسي» أمس، في حين يزداد اهتمام إدارة الرئيس دونالد ترامب، بعد مجزرة فض الاعتصام، لما تشكل من ضغط عليه، ولا سيما من الكونغرس الذي قدم فيه مشرعون ديموقراطيون وجمهوريون، أمس، مشروع قرار في مجلس النواب، يدين استخدام «العسكري» العنف ضد المحتجين والصحافيين، ولدعم انتقال سريع لسلطة مدنية، ومن ثمّ وقف الضوء الأخضر الذي يقدمه ترامب إلى حلفائه الخليجيين في دعم العسكر، بغيابه عن الملف.
إلى جانب المبادرات والمساعي الدولية، تبرز في الداخل أخرى محلية، من سبيل تلك التي يعتزم طرحها رئيس حزب «الأمة القومي»، الصادق المهدي، كما ذكرت مصادر لصحيفة «الاتحاد» الإماراتية أمس، مشيرة إلى أن المبادرة ترتكز على أربعة محاور: إنهاء مظاهر العسكرة في الشارع، وعودة كل القوات إلى ثكناتها، وتكوين لجنة تحقيق دولية أو إقليمية في أحداث فض الاعتصام، وإشراف طرف ثالث محايد على المفاوضات. وتعكس مثل هذه الأطروحات تشتت مواقف «الحرية والتغيير» التي خسرت وجود قيادات «الحركة الشعبية» المرحَّلين إلى جنوب السودان. وفي غضون ذلك، تعود تعقيدات المشهد مع اقتراب عودة المفاوضات، بعودة تيارات وأحزاب سياسية إلى الساحة، منها «تيار نصرة الشريعة ودولة القانون» الذي خرج في مسيرات الشهر الماضي ترفض «إقصاءه» من المفاوضات. ودعا «نصرة الشريعة» في بيان أمس، رئيس المجلس ونائبه أن يتقدما باستقالتيهما استجابة لإرادة الشعب، مؤكداً أن التيار لن يرضى بتفاوض معه. كذلك، دخل كيان جديد سمَّى نفسه «الاتجاه الوطني الثوري» على الخط، محمّلاً المجلس وقوى «الحرية والتغيير» مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد، فيما اتهم التحالف المعارض بالإقصاء والإبعاد عن المشهد، وبأنه أدخل «الخمور والمخدرات إلى ساحة الاعتصام»، كما يتذرع العسكر.