مع دخول الحرب في طرابلس شهرها الثالث، يتزايد النقاش بشأن القطاع النفطي الليبي الذي بدأ يتأثر بتطورات القتال. وضمن الفوضى القائمة، تحاول «المؤسسة الوطنية للنفط» الحفاظ على مستوى الإنتاج الحالي، وتبذل جهوداً لتحييد القطاع، فيما يسعى المشير خليفة حفتر إلى تحويل سيطرته العسكرية على أغلب حقول النفط إلى مكاسب مادية، وقد يؤدي فشل مسعاه هذا إلى مزيد من توظيف النفط سياسياً في خدمة مشروعه.تمتلك ليبيا أكبر احتياطي نفطي وخامس احتياطي غازي في أفريقيا. وتمثل الإيرادات الطاقية أكثر من 90 في المئة من المداخيل الحكومية الليبية. وإذا أضيف إلى ذلك أن الدولة تمثل أكبر مُشغّل، حيث يبلغ عدد موظفيها نحو 1.8 مليون (من بين 6 ملايين مواطن)، يمكن الاستنتاج أن الطاقة هي الشريان الأساسي المغذي في البلاد، ليس للاقتصاد فحسب، بل لشرعية الدولة أيضاً لناحية دورها في توزيع الريع.
في ليبيا، يبدو للوهلة الأولى كما لو أن كل شيء يجب أن يجري على أفضل ما يرام، بالنظر إلى ضخامة حجم الثروة والأرض مع العدد القليل نسبياً للسكان، لكن أولى مشاكل قطاع الطاقة جاءت ــــ للمفارقة ــــ من بوابة النزاعات الداخلية. ولم يكن ذلك غائباً عن نظام العقيد معمر القذافي، حيث استثمر فيه عبر تعزيز القبلية واللعب على تناقضات القبائل لتشديد سلطته، التي ما إن سقطت عام 2011 حتى اشتعل الاحتراب، كما سبق أن حذّر نجله سيف الإسلام القذافي في خطاب شهير له، مُعلِّلاً ذلك بأن أهم المواقع النفطية تقع في وسط البلاد، أي بين إقليمَي طرابلس وبرقة.
تَحقَّق توقُّع سيف الإسلام إلى حدّ ما. فبعد موجة مطالبة بتقسيم جديد للبلاد على أساس فيدرالي، أعلن فاعلون من شرق البلاد عام 2013 تأسيس مجلس سياسي لإقليم برقة، وإنشاء شركة لتصدير النفط، وذلك تعويضاً عمّا اعتبروه «ظلماً تاريخياً» سُلّط على مناطقهم التي تنتج نحو ثلثي نفط البلاد. تزعّم ذلك الحراكَ إبراهيم الجضران، الذي عيّن نفسه قائداً لـ«حرس المنشآت النفطية ــــ فرع الوسطى»، مدعوماً من قبيلة المغاربة التي ينتمي إليها، والمتركزة في منطقة الهلال النفطي (تحوي أهم موانئ التصدير)، وناشطين وفاعليات أخرى من شرق البلاد. لكن محاولات الجضران تصدير النفط أُحبطت، حين أوقفت البحرية الأميركية سفينة نفطية في المتوسط، وأعادتها إلى ليبيا بطلب من الحكومة في طرابلس. بعد ذلك، أوقف الجضران تصدير النفط، ما قاد طرابلس إلى شنّ حملة عسكرية ضد قواته، زادت الطين بلة بتدمير خزانات عملاقة وبنى تحتية، إلى أن ركنت إلى مفاوضته ومحاولة شراء ولائه. وقد تزامن تحركه مع عمليات قطع لإنتاج النفط في مناطق أخرى، أهمها في إقليم فزان (الجنوب الغربي) بدوافع مشابهة، وأدى كل ذلك إلى انحدار إنتاج النفط بشكل حادّ، حتى وصل إلى حوالى 200 ألف برميل يومياً عام 2015، بعدما كان يُقدّر عام 2011 بحوالى 1.65 مليون برميل، لكن إنتاج الغاز الطبيعي وتصديره لم يتأثرا، نظراً إلى وجود أغلب المحطات والأنابيب في البحر.

منافع سياسية لحفتر
على امتداد أعوام، ظلّ تصدير النفط مرتبطاً بتقلّب ولاءات الجماعات المسيطرة على حقول الإنتاج وموانئ التصدير، فيرتفع تارة ويتراجع مرات. ومع وصول حكومة الوفاق إلى طرابلس بداية عام 2016، انطلقت ترتيبات جديدة لتنظيم القطاع الطاقي، لم تَخْل بدورها من السياسة. ومع تكشف ملامح انتصار المشير خليفة حفتر في بنغازي، سعى إلى مدّ سيطرته نحو مناطق جديدة، لكنه لم يتوجه شرقاً نحو مدينة درنة التي سيطر عليها تنظيم «داعش» ثم «مجلس شورى مجاهدي درنة» المتطرف أيضاً، بل انطلق غرباً، حيث عقد نهاية ذلك العام صفقةً مع قبيلة المغاربة، تم بموجبها رفع الغطاء الاجتماعي عن الجضران، وسحب أغلب أبناء القبيلة من قواته، فتمت السيطرة على المنطقة من دون قتال تقريباً.
مع هجوم طرابلس عادت مطالبات حفتر بضرورة نيله جزءاً من موارد بيع النفط


بعد ذلك، أراد حفتر الذي لم يعترف بحكومة «الوفاق»، مواصلة توسّعه غرباً، فاتجه للسيطرة على سرت، حيث كان لتنظيم «داعش» موطئ قدم راسخ. لكن لم يكد الرجل يتخذ خطوته، حتى استبقته قوات «الوفاق» عبر إطلاق عملية «البنيان المرصوص» لاستعادة المدينة، مدعومة بغطاء جوي أميركي، ما أوقف نفوذ حفتر عند حدود إقليم برقة التاريخية. واستمر الوضع على حاله لمدة عامين تقريباً، إلى أن أطلق حفتر قبل ستة أشهر عملية للسيطرة على إقليم فزان، متعلّلاً بالفوضى التي يشهدها، خاصة الصراعات القبلية والتحركات الاحتجاجية الأهلية حول حقل الشرارة، أكبر محطات إنتاج النفط في البلاد (حوالى 350 ألف برميل يومياً)، ما دفع حكومة طرابلس إلى إطلاق حملة مضادة لتشديد سيطرتها على الجنوب، لكن جهود حفتر في استمالة القبائل خلال الأعوام الماضية، والانطباعات السلبية التي تركها الحضور السابق لقوات من شمال غرب البلاد، حجّم مساعيها، في حين سيطر حفتر، بامتداده في الجنوب الغربي عسكرياً، على أغلب مواقع إنتاج النفط وتصديره، ليرتفع الإنتاج العام في البلاد إلى حوالى 1.2 مليون برميل، إلا أن ذلك لم يكن كافياً.

بحثاً عن منافع اقتصادية
السيطرة العسكرية على مواقع إنتاج النفط وتصديره درَّت على حفتر منافع سياسية، إذ مثلت له حجة مثالية لتوسيع نفوذه في البلاد، وعزّزت صورته أمام المجتمع الدولي كرجل قوي قادر على فرض النظام. لكن في الجهة المقابلة، لم يستفد الرجل والحكومة الموالية له من أي عوائد لبيع النفط، بسبب افتقادهما اعتراف المؤسسات الدولية.
في ظلّ ذلك، شُكلت حكومة الوفاق عقب توقيع اتفاق سياسي نهاية عام 2015، وكان من المفترض أن تكون بديلاً من حكومتَي الشرق والغرب، وهي تحوي في الأصل شخصيات تكنوقراطية، بعضها عمل مع حفتر نفسه وكان قائداً في قواته، على غرار وزير الدفاع السابق مهدي البرغثي، ووكيل وزارة الداخلية فرج اقعيم، ويقودها مجلس رئاسي مكون من ممثلين عن مختلف مناطق ليبيا. وعلى هذا الأساس، نالت الحكومة ومؤسساتها اعتراف المجتمع الدولي، ولم يتغير الوضع حتى مع رفض أغلب محور شرق البلاد الاعتراف بها لاحقاً. والآن، وبدفع من شرق البلاد، صارت حكومة الوفاق أقرب إلى ممثل لغرب البلاد فقط، لكنها تسيطر على «مصرف ليبيا المركزي» و«المؤسسة الوطنية للنفط»، وهما المؤسستان الأهم عند الحديث عن قطاع الطاقة.
وفي ظلّ الحرب على طرابلس، يؤمِّن حفتر عملياً إنتاج وتصدير مُنتج تذهب عائداته إلى حكومة يشنّ عليها هجوماً عسكرياً لإسقاطها. وهو وضع لم يكن الرجل ليرضى به، ولذا أسّس مؤسسات موازية في الشرق، محاوِلاً تصدير النفط لمصلحته عند استعادته السيطرة على منطقة الهلال النفطي، عقب هجوم مباغت لقوات الجضران منتصف العام الماضي، لكنه قوبل بموقف دولي حازم.
وإثر إطلاقه الهجوم على طرابلس قبل أكثر من شهرين، عادت مطالبات حفتر بضرورة نيله جزءاً من موارد بيع النفط، وقد نقل عنه مسؤول في الرئاسة الفرنسية شكوى من هذا القبيل عند زيارته باريس نهاية الشهر الماضي. ومع تمدد آجال الحرب، يحتاج الرجل الآن بشدة إلى مبالغ بالعملة الصعبة لتعزيز ترسانته العسكرية، خاصة مع فرض «الوفاق» تضييقات على مصارف داعمة له في شرق البلاد، ما قد يقوده إلى المضي قدماً في محاولة تصدير النفط من جديد، أو حتى قطع التصدير والإنتاج لمساومة «الوفاق» والضغط عليها. وفي هذا الإطار، قال رئيس «المؤسسة الوطنية للنفط» (المعترف بها دولياً)، مصطفى صنع الله، في مقال نشره في موقع وكالة «بلومبيرغ» مطلع الشهر الماضي، إنهم رصدوا محاولات لتصدير النفط من شرق البلاد على نحو غير قانوني، وعاد قبل أيام ليؤكد هذه المعلومات، منبّهاً المجتمع الدولي إلى ضرورة حماية قطاع الطاقة لمصلحة جميع الليبيين. هذا التنبيه كرّره بشكل أكثر حزماً وزير الاقتصاد في «الوفاق»، علي عبد العزيز عيساوي، في مقال نشره أول من أمس على موقع شبكة «أورونيوز»، قائلاً إن «المجتمع الدولي يحتاج إلى ليبيا مستقرة لعدة أسباب، أحدها النفط»، مشيراً إلى أن «أي اضطراب في تصدير نفط ليبيا يُمكن أن يؤثر سلباً وبسرعة على الأسعار للمستهلكين حول العالم».