في انتظار جولة التصعيد المقبلة التي لم تفقد أرجحيتها، تنشغل إسرائيل بتوجيه الانتقادات إلى نفسها، فيما تنتظر فصائل المقاومة في غزة تنفيذ بنود اتفاق التهدئة، قبل أن تقدم على ما هددت به. فبعد أيام على التهدئة، باتت الكرة الآن في ملعب الإسرائيلي وما يقدم عليه: التنفيذ أو المخاطرة بمواجهة جديدة قد تكون أوسع وأكثر عمقاً وإيذاءً من التصعيد الماضي. هو سباق بين التهدئة والتصعيد، ومرهون بالفعل الإسرائيلي أولاً والرد الفلسطيني ثانياً. وحقيقة أن الجانبين غير معنيّين بحرب شاملة لا يمكن إهمالها في تقدير الآتي، لكنها لم تعد تكفي للجزم بأن المواجهة الشاملة لن تحدث.في الخلفية، يقابل مساعي إسرائيل في إدامة الحصار الخانق على غزة إصرار الفصائل على كسر الحصار إلى الحدّ الذي باتت معه تتقبّل كل أثمانه وإن عَلَت، الأمر الذي يعني أن مخاطرة التصعيد، بل المواجهة أيضاً، فرصة يمكن أن تأتي بنتائج إيجابية، وخاصة أن أي حل آخر يكاد يكون متعذراً. وفي المقلب المضاد، دوافع إسرائيل لإدامة الحصار غير مرتبطة بعامل واحد، بل بجملة عوامل سياسية وأمنية تهدف إلى إضعاف قدرات المقاومة التسلّحية، وكذلك منعها من تظهير بديل ناجح من السلطة الفلسطينية.
والعامل الوسيط الذي تعوّل عليه إسرائيل في إدامة الحصار هو الردع، رغم أنه أيضاً مطلوب بذاته كونه أحد أهم دفاعات إسرائيل بوصفها دولة احتلال. إذ يُؤمل من الردع منع فصائل غزة من استخدام قدراتها العسكرية ضد إسرائيل، حتى في ما يتعلق بالرد على اعتداءاتها. لكن تل أبيب تفسّر جرأة الفصائل في جولات التصعيد الأخيرة بأنها تعبير عملي عن تراجع ردعها مقابل غزة، لا في كونها خياراً فلسطينياً لا مفر منه. وهذا التفسير يستدعي من تل أبيب التفكير في مبادرة عسكرية تعيد الردع إلى منسوبه الأول، أملاً بأن يفرض هدوءاً على الميدان، من دون التنازل عملياً عن الحصار.
يعني هذا أن المخاطرة بالتصعيد المضبوط، وكذلك ما بعده أيضاً، لم تعد ممتنعة تماماً لدى الجانبين، وإن كان يعترض أهدافهما لايقين بالنتائج، وكذلك إزاء المدى والحجم والإيذاء المتبادل الذي يمكن أن تصل إليه جولات التصعيد المتلاحقة. لكن إن كانت دافعية الفصائل مفهومة، وهي فكّ ما أمكن من الحصار الخانق على القطاع، فإن دافعية إسرائيل في رفض تنفيذ ما يُتفق عليه قد تكون مشوّشة، وخاصة أن البنود المتفق عليها لا تتعلق بفك الحصار كاملاً، بل بإجراءات تخفيفية لا تخرج الأمور عن السيطرة الإسرائيلية الكاملة. فهل يستأهل ذلك مخاطرة تل أبيب في «التدحرج» إلى حرب تقول إنه لا طائل منها؟
الواضح أن الأمور من ناحية إسرائيل لا تقاس رياضياً. فالحصار تحوّل عبر الزمن في الوعي الإسرائيلي إلى واقع مطلوب لذاته ضد غزة، وأي تخفيف منه يُعدّ تراجعاً إسرائيلياً مرفوضاً ومادة سجالية يخشى منها من يقف على رأس السلطة على مكانته وصورته أمام جمهوره. على هذه الخلفية، بات الشكل والصورة أساسيين، وإن كانا لا يوازيان المضمون، إذ يسعى رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، وكذلك جيشه، إلى تعظيم الإنجازات مقابل تجهيل الرأي العام بما حققه الطرف الآخر من إنجازات، بل الامتناع عن الإقرار حتى بحقيقة التوصل إلى اتفاق وقف النار على أساس التفاهمات السابقة.
على خلفية ادعاء نتنياهو ورجالات حزبه، «الليكود»، الانتصار على غزة أخيراً، تواصلت الانتقادات التي ارتفع مستواها إلى الحدّ الذي طاول المؤسسة العسكرية. ففي الأيام القليلة الماضية، تحدث الخبراء والمعلقون طويلاً حول جولة التصعيد الأخيرة، ووجّهوا الانتقادات إلى المستويين السياسي والعسكري، ليس فقط بخصوص النتيجة المحدودة التي تحقّقت، بل أيضاً سياسة تعمية الحقائق، وخاصة مع تكشف بنود التهدئة وبدء تطبيقها إسرائيلياً.
من بين الانتقادات ما ورد أمس في صحيفة «هآرتس»، التي ذكرت أن الإسرائيليين يشعرون بـ«المهانة والغضب والخيبة من نتائج الجولة الأخيرة. المواطن المحبط يجد صعوبة في فهم لماذا تسمح إسرائيل لحماس والجهاد، جولة تلو أخرى، بأن تقررا متى تبدآن بإطلاق صليات صاروخية، ومتى تنتهيان أيضاً». أما صحيفة «يديعوت أحرونوت» فرأت أنه «كان واضحاً للجيش الإسرائيلي ما لا يريده المستوى السياسي. إنه لا يريد عملية عسكرية في غزة، ولا حتى عملية محدودة على شاكلة الجرف الصلب». وأضافت الصحيفة إن إسرائيل اشترت هدوءاً نسبياً، «وللأسف، رئيس الحكومة لا يكلّف نفسه عناء قول هذا الكلام الواقعي للشعب. بدلاً من هذا، يُخرج تصويراً احتفالياً مع (ضابطين) لواءين، أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، هما ببزتيهما (العسكريتين). لغة جسد اللواءين تبث إرباكاً وعدم ارتياح. هذه هي صورة الانتصار».
في مقالة أخرى، لكن في «هآرتس»، تحت عنوان «كوخافي البطل الكبير»، يَرِدُ أنه كان من المُحرج هذا الأسبوع سماع رئيس الأركان، أفيف كوخافي، يتحدث بجدية عن «الضربة المهمة للعدو» وعن «جيش الإرهاب العامل من قطاع غزة الذي شهِد قوة الجيش وأجهزة الأمن، الذين دمروا مئات الأهداف الإرهابية. «دمروا المئات؟»؛ إذا جمعنا كل الأرقام التي وزعها الجيش في العقد الأخير، فسوف نتوصل إلى نتيجة بأن هذه المنظمة الإرهابية الصغيرة في غزة لديها جيش أكبر من الجيش الأميركي». وتضيف «هآرتس»: «كان من المُحرج أكثر سماع كوخافي يتباهى بالانتصار على «جيش الإرهاب». عن أي جيش يتحدث، هذا «جيش» بلا آليات مصفّحة ولا دبابات ولا طائرات ولا سفن ولا غواصات، وميزانيته هي تقريباً واحد بالألف من ميزانية الجيش الإسرائيلي!».