الجيش لا يسعى إلى التحكم بالمشهد السياسي الانتخابات الرئاسية طريق أقصر من المجلس التأسيسي
محاولات اختراق الحراك الشعبي أتوقّعها ولا تفاجئني


على رغم أن علي بن فليس، رئيس حزب «طلائع الحريات»، كان من أبرز داعمي الرئيس المستقيل، عبد العزيز بوتفليقة، عند وصوله إلى الحكم عام 1999، إلا أن الطلاق بينهما كان سريعاً، ووصل الى ذروته في المنافسة الانتخابية الشرسة التي جمعتهما في رئاسيات 2004. منذ ذلك الوقت، تحوّل بن فليس، الذي شغل منصب رئيس الحكومة عامَي 2002 و2003، إلى واحد من أشرس معارضي نظام حكم الرئيس السابق، الذي ترشح ضده مرة أخرى عام 2014، واحتلّ المرتبة الثانية في انتخابات وصفها بالمزورة. ويُعدّ الرجل اليوم أحد أبرز قادة المعارضة، ويتصدّر لائحة الأسماء المطروحة للمنافسة على منصب الرئيس بعد نهاية المرحلة الانتقالية، التي يشرح في هذه المقابلة مع «الأخبار» تصوره لإدارتها

كيف تنظرون إلى ما يجري في الجزائر منذ 22 شباط/ فبراير؟
ــــ ما يجري في الجزائر هو ثورة ديموقراطية سلمية بامتياز، وهي ثورة شعبية أصيلة، أبهرت الجزائريين أنفسهم قبل أن تبهر العالم حولهم، فكل جزائري يحسّ اليوم بأنه استرجع عزته، وافتكّ مواطنته، وحطم جدران الخوف والصمت والرضوخ للأمر الواقع المفروض عليه منذ أمد طويل. لم يكن من الممكن قبل اليوم مقارنة أي جيل آخر بجيل تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1954، الذي فجّر الثورة التحريرية، وها هو جيل اليوم، الذي حرّر العباد، يقارَن بدون تردد بالجيل الذي حرّر البلاد. هذا الجيل يعي وعياً كاملاً أنه يعيش في القرن الواحد والعشرين، لكن، وعلى العكس تماماً، حكامه لم يعوا بالقدر الكافي أنهم ما زالوا رهائن ذهنيات وممارسات القرن الماضي. وهكذا، حدثت الهوة بين الحاكم والمحكوم، وتوسعت إلى درجة افتقدت فيها السلطة القائمة كل ثقة وكل صدقية وكل شرعية. لقد أدارت هذه السلطة ظهرها للشعب لمدة طويلة، وها هو الشعب يجبرها على النظر إليه العين في العين، ويطلب منها الرحيل، وهو ما نحن شهود عليه اليوم. فالشعب يريد استرجاع سيادته، وأن يكون فعلاً مصدراً لكل السلطات، وأن تحترم احتراماً صارماً الحقوق والحريات اللصيقة بمواطنته. وبجملة مفيدة واحدة: إنه يريد بناء دولة الحق والقانون، أي الدولة الديموقراطية الحديثة.

قدم الرئيس بوتفليقة استقالته في الثاني من نيسان/ أبريل بعد صدور بيان أعقب اجتماع قيادة أركان الجيش. هل ما حدث يعتبر استقالة طوعية أم تنحية في تقديركم؟
ــــ معرفة إن كان رحيل رئيس الجمهورية السابق استقالة أم تنحية هو موضوع قد يثير فضول المحللين والمراقبين والأكاديميين، لكنه لا يثير القدر نفسه من العناية والاهتمام لدى الفواعل السياسية. ما يهمّ الفاعل السياسي هو النتيجة، والنتيجة هي أن الرئيس قدم استقالته لرئيس المجلس الدستوري، بحضور رئيس مجلس الأمة، وأن المجلس الدستوري اجتمع وأثبت حالة شغور منصب رئيس الجمهورية، وأن البرلمان بغرفتَيه أخذ علماً بقرار المجلس الدستوري، وأذِنَ لرئيس الأمة بتبوء منصب رئيس الدولة لمدة 90 يوماً، تُنظَّم خلالها انتخابات رئاسية. هذه هي الحقائق، وهذه هي الوقائع، أما الخوض في التخمينات والتفسيرات والاستقراءات، حتى في شكلها المؤامراتي، فهو حق وحرية مكفولان للجميع. ما أتأسف له شخصياً، هو أن تمسكاً جنونياً بالسلطة كلّف البلد أزمة كبرى سياسياً ودستورياً ومؤسساتياً، ولا يزال البلد في العاصفة، وهو يعاني الأمرّين للخروج منها، فلو احترم الرئيس المستقيل الدستور في عام 2008، واكتفى بالعهدتين المنصوص عليهما، ولو اضطلع المجلس الدستوري بكامل صلاحياته، وأقرّ في عام 2013 حالة شغور منصب رئيس الجمهورية الذي كان جلياً آنذاك، لما دخلت الجزائر في دوامة لا يمكنها اليوم الخروج منها من دون تسديد تكلفة باهظة. هذا هو ما يؤلمني وما يحزّ في نفسي، وليس معرفة إن كان رحيل الرئيس السابق إرادياً أو غير إرادي.
الجيش لا يسعى إلى التحكم بالمشهد السياسي


كنتم أول من استعمل مصطلح «القوى غير الدستورية» الذي أصبح يردده حتى الرسميون في السلطة. ما الذي تقصدونه بهذا المصطلح؟ وهل تخلصت الجزائر تماماً من هذه القوى؟
ــــ في اليوم الموالي لإعلان نتائج رئاسيات 2014، صرّحت في مؤتمر صحافي بأن الجزائر لم تنتخب رئيساً للجمهورية، وإنما مددت في عمر شغور السلطة، وحذرت من أن هذا الفراغ سيُملأ لا محالة، وأن من يملأونه هم قوى الضغط والنفوذ. وفي خريف عام 2014، استعملت لأول مرة مصطلح «القوى غير الدستورية»، فلهذه القوى رأس مدبر ولها أذرع ضاربة. فالرأس المدبر يتشكل أساساً من ذوي القربى للرئيس، الذين تحولوا فعلاً إلى عائلة حاكمة في بلد لم يعد يحمل من الجمهورية سوى الاسم. وبعد عام 2013، لم يعد الرئيس قادراً تماماً على تأدية مهماته الدستورية، واستولى عليها أحد أشقائه الذي جعل منه مستشاره الخاص منذ عهدته الأولى، وبهذه الطريقة سقطت كل السلطات المرتبطة برئاسة الجمهورية في يد هذا المستشار الذي نصّب نفسه آمراً وناهياً في كل ما يتعلق بكبريات شؤون الدولة وصغرياتها. وكانت تساعده في ذلك أذرع ضاربة، وتتكون هذه الأذرع أساساً من أحزاب الموالاة ورجال المال المشبوه وبعض النقابات وبعض وسائل الإعلام المرتبطة ارتباطاً وطيداً بالمال المشبوه، وحتى أجزاء من النخب التي جُنّدت لتقديم كل عبث وكل تلاعب وكل انحراف للقوى غير الدستورية في صورة عمل علمي واجتهاد بالغ الجدية، يخدمان المصلحة العليا للوطن. والنتيجة هي أمام أعيننا المصدومة اليوم؛ لقد صحّرت هذه القوى غير الدستورية المشهد السياسي، وأبطلت كلية مفعول المؤسسات الدستورية للبلد، وحولت الفضاء الاقتصادي إلى حقل خراب ودمار، فهي من كانت تعين الحكومات، وتوزع المقاعد في البرلمان، وتمنح الصفقات التجارية والاقتصادية، وتأمر البنوك بإقراض من تشاء ورفض القروض لمن تشاء، وتقوم بترويض القضاء بغية ضمان المناعة والحصانة لزبانيتها العديدة والمتنوعة، وكل هذا على سبيل المثال لا الحصر. لكن هل اختفت هذه القوى من المشهد اليوم؟ لا أظن ذلك بتاتاً، فهي لا تزال فاعلة، وما يزيد من خطورتها وشراستها أنها تشعر بالطوق الذي ضرب حولها.

يطرح البعض مخاوف من تحكم المؤسسة العسكرية بالمشهد السياسي في الجزائر بعد هذا الحراك الشعبي، على طريقة ما حدث في مصر. هل تتشاركون هذه المخاوف؟
ــــ لا أظن إطلاقاً أن هذه المقارنة صائبة، فتاريخ الجيش الجزائري مغاير تماماً لتاريخ الجيش المصري. واقتناعي الراسخ هو أن الجيش الوطني الشعبي لا يريد التحكم بالمشهد السياسي. صحيح أن بعض الأطياف من الطبقة السياسية ومن المجتمع المدني تطالب القوات المسلحة بتدخل أكبر في البحث عن حل سياسي للأزمة، غير أن الجيش الوطني الشعبي مصرٌّ على البقاء في الأطر الدستورية، وعلى الاكتفاء بمرافقة البحث عن حل للأزمة الراهنة. هذه المعطيات الدامغة هي التي تؤدي بي إلى الاعتقاد بأن لا نية للجيش الوطني الشعبي في توسيع مهماته الدستورية إلى حدّ التحكم بالمشهد السياسي، فلا هو يريد ذلك، ولا البلد ينتظر منه ذلك.

ترفض أحزاب وشخصيات تطبيق المادة 102 من الدستور لأنها في تصوّرهم تعيد إنتاج النظام نفسه. ما رأيكم في ذلك، وخصوصاً بعد استقالة رئيس المجلس الدستوري؟
ــــ من البديهي أن المادة 102 بمفردها لا يمكنها أن توفر القاعدة الصلبة لحل الأزمة، بالنظر إلى المطالب الشرعية للحراك الشعبي. هذه المطالب يتصدّرها مطلب مركزي يقضي برحيل النظام، مصحوباً بكل وجوهه البارزة وكل رموزه التي عاثت في الأرض عبثاً وفشلاً وإخفاقاً وفساداً. وعليه، فإن التطبيق الحرفي والحصري للمادة 102 من الدستور، سيؤدي لا محالة إلى الإبقاء على البعض من هذه الوجوه والرموز في أكثر مؤسسات الدولة حساسية، أي الرئاسة والحكومة والمجلس الشعبي الوطني. وهنا، تتجلى ثلاثة أسئلة تطرح نفسها بنفسها: هل من الممكن والمعقول أن تبقى مفاتيح المرحلة الانتقالية التي تمهد لتحول سياسي جذري في يد هذه الوجوه والرموز؟ وإذا كانت الانتخابات الرئاسية محطة بالغة الأهمية في هذا التحول، أليس من المجازفة والمغامرة تكليف أباطرة الغش السياسي والتزوير الانتخابي بضمان صدقها وصدقيتها؟ وبما أن الفساد الاقتصادي رافقه ودعمه الفساد السياسي، كيف لنا أن نطارد الأول وأن نتسامح مع الثاني؟ إن المادة 102 وحدها لا تكفي، ويجب تطبيقها بصفة متزامنة ومتكاملة مع المادتين 7 و8 من الدستور. وعليه، فإن رحيل هذه الوجوه والرموز من عدمه، هو في صميم الانسداد الراهن، فمع رحيلهم ستطلّ علينا بوادر الانفراج، أما إن بقوا فسيستعصي علينا بلوغ الحل المنتظر والمنشود.

الانتخابات الرئاسية طريق أقصر من المجلس التأسيسي


هل تؤيدون فكرة الذهاب إلى مجلس تأسيسي أم أنكم من دعاة البدء بالانتخابات الرئاسية؟
ــــ ليس لديّ حكم مسبق على نوع الحل أو طبيعته، سواء كان ذلك في شكل تنظيم رئاسيات، أو دعوة إلى مجلس تأسيسي، فأنا مع أفضل حل، وهو في نظري ذلك الذي تتوفر فيه الشروط الآتية: أولاً، أن يساهم في أقرب الآجال الممكنة في سدّ الفراغ المؤسساتي الرهيب الذي يعانيه البلد راهناً. ثانياً، أن يعيد للبلد استقراره في فترة زمنية معقولة. ثالثاً، أن يتم بأقل تكلفة سياسية واقتصادية واجتماعية للبلد. فإذا أخذنا وعملنا بهذه المعايير، فإنه يتبين لنا أن الرئاسيات هي الطريق الأقصر، والمجلس التأسيسي هو الطريق الأطول للخروج من الأزمة المحتدة التي يعيشها البلد. وعليه، وإذا اقتنعنا بأن البلد في سباق ضد الساعة، فإن الحل المبني على تنظيم رئاسيات هو الذي يمكننا من كسب هذا السباق. أما بالنسبة الى الحل المبني على دعوة إلى مجلس تأسيسي، فإن صياغة دستور جديد للبلد لا يمكن في أحسن الأحوال أن تتم في أقل من سنتين أو ثلاث سنوات. وفي هذه الأثناء، سيبقى البلد من دون رئيس ومن دون حكومة كاملة الصلاحيات، وسيتواصل الانهيار الاقتصادي، وسيستفحل شلل الإدارة، وستزداد الأوضاع الاجتماعية توتراً من دون سلطة قادرة على وضع حدود له. وبعد ثلاث سنوات، قد نتوصل إلى صياغة دستور جديد، لكن البلد المستفيد منه يكون قد انهار لا سمح الله. هذه هي العوامل الخطيرة فعلاً، والتي تؤدي بي إلى التمسك بتنظيم رئاسيات تجنب البلد الدخول في دوامة لا مخرج منها. فلْنُنظم هذه الرئاسيات، ولنترك لكل مرشح فيها عرض تصوره للانتقال الديموقراطي على الشعب الجزائري، ولْنُمكّن الشعب من إصدار حكمه على هذه التصورات المعروضة عليه، وفي النهاية، سيعود للرئيس الشرعي الجديد تطبيق برنامجه الذي وضع الشعب نفسه ثقته فيه.

هناك من يعتقد في الجزائر بأن علي بن فليس هو امتداد للنظام نفسه إذا أصبح رئيساً. كيف تردون على ذلك؟
ــــ كيف لي أن أكون امتداداً لنظام سياسي رأى في شخصي عدواً لدوداً، وأنا الذي كنت أول من تصدى له خلال أول عهدة للرئيس المستقيل. لقد ترشحت ضد هذا الرئيس في 2004، لمّا كان يُنظر إليه كقلعة لا يمكن زحزحتها. ترشحت ضده آنذاك، وحذرت من ميوله وانحرافاته التي بدأت تلوح في الأفق، وقمت بدق ناقوس الخطر، وأنا الذي شاهد من الداخل بداية تجذر الحكم التسلطي الفرداني، وبداية التصحير للمشهد السياسي، ومحاولات ترويض القضاء، وفرض قبضة حديدية على الإعلام، وتشكيل النواة الصلبة للمال الفاسد، والعبث بخيرات البلد، وبداية تغلغل الفساد في مؤسسات البلد وإدارته. من يعتقد بأنني امتداد لهذا النظام، عليه أن يعود إلى البرنامج السياسي الذي عرضته على الشعب الجزائري عام 2004، وسيجد فيه كل دوافعي وكل قناعتي، وسيرى أنني لم أكتف بالمطالبة بقطيعة مع هذا النظام، بل طالبت ببتره واقتلاع جذوره. وعاودت الكرّة في عام 2014، وجزمت أمام الشعب الجزائري أن هذا النظام بات يمثل أكبر خطر داهم بالنسبة الى الشعب والدولة والأمة. وللأسف، ها هو كل ما حذرت منه، وكل ما نددت به قدر المستطاع، يتحول في هذه الساعات إلى واقع مأسوي. وأود أن أخلص إلى ما يأتي: إذا اعتبر البعض حقاً أنني امتدادٌ لهذا النظام، فإن رأياً كهذا ليس فقط إجحافاً في حقي، بل أكثر من ذلك، هو ظلم في حق كل الجزائريات والجزائريين الذين وقفوا معي منذ البداية، وتعرضوا لشتى أنواع العقاب والانتقام، فمنهم من سُجن، ومنهم من قُطعت أرزاقه، ومنهم من طُرد من منصب عمله، ومنهم من توقفت مسيرته المهنية، ومنهم حتى من دُمرت حياته العائلية. لم نكن، رفقائي وأنا شخصياً، امتداداً لهذا النظام، بل كنا من السباقين في التبليغ والتحذير.

محاولات اختراق الحراك الشعبي أتوقّعها ولا تفاجئني


أبدى الكثير من الدول الأجنبية، وخاصة فرنسا، حرصاً على متابعة تطورات الأوضاع في الجزائر. هل تعتبرون ذلك تدخلاً في شؤون الجزائر الداخلية؟
ــــ إن شئنا أو أبينا، فنحن في عصر العولمة، وهذا العصر تطغى عليه ترابطية قوية بين الدول، فكل دولة تتابع مجريات الأمور في الدول الأخرى، وتبدي بصفة طبيعية موقفها منها، والجزائر ليست باستثناء، فهي أيضاً تتابع الأوضاع في دول أخرى، وتتخذ مواقف منها، هذا معطى طبيعي، وقد أقول هو روتيني في العلاقات الدولية المعاصرة. أما أن تتطور الآراء والمواقف إلى أفعال وممارسات، فذلك هو ما يمثل تدخلاً في شؤون الغير، وهذا ما لا نقبله ولا يقبله الشعب الجزائري قاطبة.

تحدث بيان الشرطة الأخير عن ضبط أجانب وإحباط عمليات إرهابية كانت تستهدف الحراك. هل تعتبرون ذلك مجرد دعاية للتخويف، أم أن الأمر يستدعي الحذر؟
ــــ بحكم التجربة، أعلم يقيناً أن حالات اللااستقرار كالتي تمر بها الجزائر، هي دائماً حالات تحاول قوى داخلية أو خارجية التأثير على مجراها والدفاع عن مصالحها فيها. إن محاولات اختراق كهذه واردة، وأنا شخصياً أتوقعها ولا تفاجئني. أما عن البيان الرسمي للأمن الوطني، فإنه وعد بإبلاغ الرأي العام الجزائري بمعطيات عن هذه الاختراقات، وأنا في انتظار الاطلاع عليها قبل إبداء الرأي المؤسس بشأنها.