الجزائر | على رغم تنصيب عبد القادر بن صالح رئيساً مؤقتاً للجزائر، وتسلّمه مهماته رسمياً في قصر المرادية، إلا أن قِبلة الجزائريين في هذه الأيام مُصوّبة بوضوح إلى مقر وزارة الدفاع الوطني في أعالي العاصمة، حيث يوجد مكتب رئيس أركان الجيش، نائب وزير الدفاع الوطني. وباتت بيانات الجيش، التي يحرص الفريق أحمد قايد صالح على تلاوتها بنفسه، تمثل البوصلة الحقيقية، التي من خلالها يُمكن استقراء اتجاه ريح النظام في الأيام المقبلة، لعِلم الجزائريين بأن الجيش هو الممسك بخيوط اللعبة حالياً، وعليه يقع العبء الأكبر، إما نحو انفراج الأوضاع أو تعقيدها أكثر.لكن الأسبوع الأخير بدا كأنه منعرج في علاقة رئيس أركان الجيش بالحراك الشعبي، وبدأت تلك الثقة العمياء التي وضعها البعض في شخص قايد صالح تهتزّ تحت وطأة تصريحاته الأخيرة التي أيّد فيها خيارات مرفوضة شعبياً. ففي البيان الأخير للجيش، زكّى قائد الأركان بوضوح التطبيق الحرفي للمادة 102 من الدستور، التي تفرض رئيس مجلس الأمة رئيساً مؤقتاً للبلاد، وتنصّ على تنظيم انتخابات رئاسية في ظرف ثلاثة أشهر، بالمنظومة القانونية القائمة نفسها. ودعا، أيضاً، إلى عدم رفع المطالب التعجيزية، وحذر من «اليد الخارجية» التي بدأت، بحسبه، تعبث بالجزائر، وذلك قبل ساعات من إعلان الشرطة توقيف «أجانب وعناصر إرهابية» بالتعاون مع الجيش، خلال الحراك الشعبي، كانوا يخططون لتفجير الوضع في البلاد، ويعني ذلك ضمنياً مُطالبة الجزائريين بالعودة إلى منازلهم، والاكتفاء بما حققوه لحدّ الآن. واستُقبل هذا البيان بشيء من الصدمة عند الكثيرين، حتى إن صحيفة «الخبر»، الواسعة الانتشار، عنونت: «قايد صالح يُدير ظهره للحراك».
وظهرت، يوم أمس، شعارات مناوئة للفريق قايد صالح، في العاصمة الجزائرية التي احتشد فيها للجمعة الثامنة على التوالي مئات الآلاف من المتظاهرين. وسُمع بقوة هتاف: «يا بن صالح أنت ذاهب ذاهب، خذ معك قايد صالح»، لكنه لم يكن مُردَّداً من الجميع، كدليل على وجود انقسام حول هذا الموضوع لدى الحراك الشعبي. كما رفع متظاهرون قرب الساحة المركزية في العاصمة لافتات كٌتِب عليها «لقد فزنا بالشوط الأول، لكن قايد صالح باع المقابلة». وتُعدّ هذه المرة الأولى التي تجري فيها المطالبة برحيل الفريق قايد صالح، بعدما كان مستثنى من هذه الدعوات التي تركزت في البداية على الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وشقيقه السعيد بوتفليقة، ثم امتدت في الجمعة ما قبل الماضية إلى الباءات الثلاثة، نسبة إلى الحروف الأولى من أسماء الشخصيات المرفوضة، وهي: عبد القادر بن صالح، نور الدين بدوي الوزير الأول والطيب بلعيز رئيس المجلس الدستوري، وثلاثتهم من المُعيَّنين من الرئيس السابق ومُحيطه القريب.
قد يتّجه الجيش إلى الحل السياسي في حال لمسه رفضاً شعبياً للانتخابات


ولم يكن مُمكناً، وفق العديد من القراءات في الجزائر، أن يُنَصَّب عبد القادر بن صالح رئيساً للبلاد يوم 9 نيسان/ أبريل الجاري، لولا مُباركة مسبّقة من رئيس أركان الجيش؛ إذ ليس رئيس مجلس الأمة المُعين بالشخصية التي يمكنها مُقاومة رفض الجيش لها، ما يعني حصوله على الضوء الأخضر للبقاء في منصبه. وولّد هذا الواقع تساؤلات كثيرة حول ما يريده رئيس أركان الجيش تحديداً، فهو من جهة يقول في خطاباته إنه سيسعى إلى تلبية كل مطالب الحراك، لكنه من ناحية أخرى يسير في اتجاه يرفضه كثير من المُحتجين. وذلك ما دفع سعيد سعدي، مؤسس «التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية»، والوجه السياسي البارز في الجزائر، إلى مطالبة الفريق قايد صالح صراحة بالرحيل من منصبه. وأضاف سعدي، الذي يُعتبر من رموز التيار العلماني في الجزائر: «كل شيء يناديك بالانسحاب. ثقل السنين والعصر الذي نعيشه يدعوان إلى الرزانة والشجاعة والتبصر. حان الوقت لفسح المجال للأجيال الجديدة. إن زمن الديكتاتوريات العسكرية قد ولى. وإن لمن سوء التقدير عدم الفهم أن اليوم في الجزائر أيضاً، أصبحت صرخة المواطن أكثر استماعاً من طلقة المدفع».
لكن دعوة سعدي، قايد صالح، إلى الرحيل، لا يبدو أنها تحظى بإجماع. ففي نظر البعض، أن الرجل يُهاجَم لأنه يتمسك بـ«الحل الدستوري»، ويرفض الذهاب إلى مرحلة انتقالية. ويقول الكاتب الصحافي، عبد الحميد عثماني، إن «ثمة من يخططون للفوضى المؤسساتية التي تمنحهم الفرصة لفتح النقاش في كل شيء من دون قيود ولا استثناء». ويرى عثماني أن «واجب المرحلة في مسار الحراك الشعبي يقتضي التركيز على افتكاك ضمانات ملموسة من السلطة الفعلية، لتأمين الانتخابات بكل الآليات العملية، وقطع الطريق أمام المغامرين والمقامرين والمندسين لركوب ظهر الشعب باسم الثورة، من أجل تحقيق أجنداتهم الأيديولوجية، على حساب تطلعات الأغلبية المسحوقة». ويضيف إن «تحامل فرنسا وعملائها في الداخل على الجيش الجزائري هو صفارة إنذار للواعين بمكائد العدو التاريخي، للالتفاف حول المؤسسة العسكرية حتى العبور بأمان إلى شاطئ المستقبل».
ويبدو من الاتجاه العام أن ثمة حيرة لدى الجزائريين في كيفية التعامل مع هذا الوضع، وخصوصاً بعد استدعاء الرئيس المؤقت للهيئة الناخبة، والذي يعني عملياً انطلاق مسار الانتخابات الرئاسية التي ستكون في 4 تموز/ يوليو. وسيكون رئيس أركان الجيش، مرة أخرى، أحد أكثر المنتظَرين في توجيه المسار، في وقت تتحدث فيه مصادر مقربة من الجيش عن أن المؤسسة العسكرية تراقب عن كثب تطورات الأحداث في البلاد، وقد يدفعها الأمر في حال لمسها رفضاً مطلقاً لتنظيم الانتخابات، إلى مُراجعة خريطة طريق الحل، وذلك بإبعاد الرئيس المؤقت الحالي، ورئيس المجلس الدستوري، وإيجاد طريقة أكثر ملاءمة للتعامل مع مطالب الحراك الشعبي. وترك رئيس أركان الجيش، في خطاباته السابقة، فُسحة تحسباً للوقوع في الانسداد، عبر حديثه عن تفعيل المادة 7 من الدستور، والتي تنص على أن الشعب هو مصدر السلطات، ما يعني، بحسب الخبيرة الدستورية فتيحة بن عبو، البحث عن حل سياسي، لأن البلاد تعيش اليوم حالة ثورية لا يُمكن التعامل معها وفق الدستور الحالي، الذي يُنظم انتقال السلطة في الظروف العادية.