يُخيّر المحتجون السودانيون، الجيش، المؤسسة الأقوى في البلاد، بين الانحياز إليهم في مطالبهم بتنحّي الرئيس عمر البشير، وبين الاستمرار في دعم النظام، وبالتالي، استمرار الأزمة والتظاهرات في العاصمة ومختلف المدن. لكن الجيش، الذي حسم الموقف في انتفاضتَي 1964 و1985 لصالح الشعب ضدّ نظامَي الرئيسين إبراهيم عبود وجعفر النميري، له حسابات تبدو أكثر تعقيداً هذه المرة، تدفعه إلى اتخاذ موقف شبه محايد، وإن رأى البعض أنه «عملياً انحاز إلى الشعب».
تبدل الموقف
منذ دعوة قوى «إعلان الحرية والتغيير» الجيش إلى الانحياز للشعب، في السادس من نيسان/ أبريل الماضي تزامناً مع الذكرى الـ34 لانتفاضة 1985 التي أطاحت النميري، بدا واضحاً تبدُّل موقف المؤسسة العسكرية، التي سعى البشير إلى تسييسها على مدار 30 عاماً، إذ انتقل خطاب الجيش من التأكيد أنه لن يسلّم البلاد إلى «شذاذ الآفاق من قيادات التمرد المندحرة، ووكلاء المنظمات المشبوهة في الخارج»، كما قال رئيس الأركان المشتركة، كمال عبد المعروف الماحي، في كانون الثاني/ يناير الماضي، إلى إظهاره حرصاً على سلامة المتظاهرين، مثلما فعل أمس عندما تدخّل جنوده لحماية المعتصمين من هجوم مجموعات من رجال الأمن والاستخبارات، خلال الاعتصام المستمر أمام مقرّ قيادة الجيش في الخرطوم ومقرّ إقامة البشير، وأطلقوا رصاصات تحذيرية في الهواء لصدّ عناصر من شرطة مكافحة الشغب وأفراد الشرطة السرية، كانوا قد انطلقوا بشاحنات صغيرة تجاه المتظاهرين وهم يطلقون الغاز المسيل للدموع. يضاف إلى ذلك أن عدداً من المحتجين يحتمون في مقرّ القيادة العامة للجيش، في وقت يشنّ فيه ملثمون، إلى جانب الشرطة، هجوماً يومياً على المعتصمين، بحسب ما أكد رئيس حزب «الأمة»، الصادق المهدي، أمس. وقد أدى هذا الأمر إلى مقتل 21 شخصاً، بينهم 5 عسكريين، منذ السبت الماضي، وفق ما أعلنت «لجنة أطباء السودان» أمس، مشيرةً إلى أن أحد القتلى، من منسوبي القوات المسلحة، قتل برصاص «قوات أمنية».
انضم نحو 15 عسكرياً بينهم ضباط إلى صفوف المتظاهرين


تصدّي جنود الجيش لقوات الأمن لم يكن المظهر الوحيد لتحول موقف المؤسسة العسكرية، إذ انضمّ نحو 15 عسكرياً، بينهم ضباط بالزي العسكري وبحوزتهم أسلحتهم، أمس، إلى صفوف متظاهرين قرب مباني القيادة الجوية، حيث رددوا هتافات تطالب بإسقاط النظام، ما يعيد إلى الأذهان سيناريو انتفاضة 1985 حين دفعت الاحتجاجات إلى خلافات بين القيادة وصغار الضباط والجنود، الذي اختاروا الانحياز إلى الثوار بعد 11 يوماً من اندلاع التظاهرات، ما أدى إلى تخلّي قائد الجيش عن الرئيس النميري، نتيجة ضغط من ضباطه الذين تأثروا بالضباط الأقل رتبة، بينما كان قبل يوم واحد فقط يقف تماماً مع الرئيس. وهذه ليست المرة الأولى التي ينضمّ فيها عسكريون إلى الاحتجاجات الحالية، إذ سبق ولوحظ وجود ضباط من الجيش والشرطة وسط المتظاهرين، في وقت يؤكد فيه محتجون أنه كثيراً ما حال أفراد من الجيش بينهم وبين أفراد من الأمن.

الهواجس والحسابات
إزاء التطورات التي تجمع الجيش والشعب في مشهد جديد، يرى «تجمع المهنيين»، الذي يقود الحراك الشعبي، أن الجيش «عملياً انحاز إلى الشعب»، كما قال القيادي فيه محمد الأسباط لقناة «الحرة» الأميركية، مشيراً إلى أن البلاد «الآن في انتظار إعلان رسمي بهذا الانحياز، والبدء بترتيبات للانتقال الديموقراطي». كذلك، ترى المتحدثة باسم التجمع، حاجة فضل كرنديس، أن توجه المعتصمين إلى الجيش «لم يكن اعتباطياً»، وأن الأخير «ما زال حافلاً بالكثير من الشرفاء والوطنيين».
لكن وسط هذا التفاؤل، يرى مراقبون أن انحياز الجيش لن يكون من دون تبعات عليه، سواء في صورة مواجهة مع تشكيلات شبه عسكرية أخرى تُعتبر خصماً له، وعمل البشير على قوننتها لإبعاد أي احتمالات انقلاب بدعم من الجيش، كـ«استخبارات حرس الحدود» و«قوات الدعم السريع»، أو حدوث انشقاقات في صفوفه، كما توقع القيادي في حركة «الإصلاح» المعارضة، عثمان جلال، خصوصاً أن البشير اتجه في مرحلة سابقة إلى عسكرة السلطة لتطويق نفسه بمؤيدين له من الجيش، من خلال تعيين حكام الولايات وتعيينات في الحكومة، الأمر الذي وضع المؤسسة العسكرية عملياً بين خيارين: حماية نظام البشير واستمرار الأزمة، أو الانحياز إلى الشعب بعيداً عن التبعات.

بحثاً عن مرحلة انتقالية
موقف الجيش المتحول دفع الشرطة السودانية، أمس، إلى الطلب من قواتها «عدم التعرض» للمواطنين، والدعوة إلى «توافق يعزز الانتقال السلمي للسلطة». لكن «تجمع المهنيين» أكد أنه لن يتفاوض مع حكومة البشير، ودعا إلى مواصلة الاعتصام. وأشار أحد قيادييه لوكالة «رويترز»، أمس، إلى أنه يريد «تشكيل حكومة انتقالية مدنية». في المقابل، وضع الصادق المهدي النظام أمام خيارات ثلاثة: إما «الاستمرار في مواجهة خاسرة تسفك مزيداً من الدماء بلا طائل»، أو «تسليم السلطة لقيادة عسكرية مختارة مؤهلة للتفاوض مع ممثلي الشعب»، أو «قيام الرئيس نفسه بالتفاوض مع القوى الشعبية لإقامة نظام جديد قومي وغير إقصائي»، وفق ما جاء في بيانه أمس. لكن البشير، من جهته، لا يزال يتمسك بالحوار، على رغم التجارب السابقة غير المشجعة للمعارضة، إذ أقرّت «اللجنة التنسيقية العليا للحوار الوطني»، بعد اجتماع برئاسة البشير أول من أمس، ضرورة تقديم «مبادرة متكاملة تسهم في تجاوز البلاد لظروفها الحالية»، وبـ«توافق المجتمع بكل فئاته وقواه السياسية على حل يرضي الجميع».