غزة | قبل سنة من الآن، ضاقت الخيارات أمام غزة. كانت قد مرّت قرابة أربعة أعوام على الحرب الأخيرة. بدا أن الموقف محصور بخيارين لا ثالث لهما: الأول الذهاب إلى مواجهة عسكرية، والثاني مواصلة الموت البطيء. وترافق ذلك مع إطلاق الأميركيين مخططهم المسمّى «صفقة القرن»، الهادف إلى تصفية القضية الفلسطينية. التقطت الفصائل أفكاراً ودعوات قدمها عدد من الشبان لتحويل الانفجار في اتجاه الاحتلال: زحف جماهيري كبير في «يوم الأرض»، الـ30 من آذار/ مارس.إذن، جاءت المسيرات في وقت حرج، بعدما بات واضحاً أن مشروع التسوية قد مات من دون أن يترك إرثاً حقيقياً للشعب الفلسطيني، سوى سلطة هزيلة لا تستطيع أن تتخلى عن التزاماتها الأمنية والاقتصادية. مقابل ذلك، كان مشروع المقاومة يواجه حرباً مختلفة الوجوه تستهدف بقاءه: حالة ملاحقة مستمرة في الضفة المحتلة، وحالة حصار مشدد في القطاع. وجدت المقاومة نفسها في أزمة ممارسة، رغم امتلاكها شرعية الوجود والفعل. أما الواقع العربي، فوصل إلى أدنى مستوياته بعد اندفاع دول عربية إلى التطبيع العلني.
لحقت المسيرات منذ بدايتها عقوباتٌ مشددة قادتها السلطة في رام الله ضد غزة. بدأت بتقليص رواتب الموظفين بعد إخفاق المشروع المصري للمصالحة، الذي انتهى عقب أربعة أشهر من إعادة انطلاقه. فقبل «يوم الأرض» الماضي، استهدف تفجيرٌ موكب رئيس حكومة «التوافق» السابقة، رامي الحمد الله، لدى عبوره إلى القطاع، لتتلقف السلطة هذه الحادثة وتبدأ حربها المالية وتحريضها على حركة «حماس». جاءت المسيرات مع تلقّي الدوائر الأمنية تحذيرات من محاولات لتسخين الشارع ضد المقاومة بدافع الوضع الاقتصادي الصعب. فمن حيث قصدت أو لم تقصد، أحبطت المسيرات محاولة إسرائيل والسلطة إشعال حرب داخلية.
في الوقت نفسه، مثّلت المسيرات بديلاً وحدوياً للفصائل التي رفضت المشاركة في «المجلس الوطني» الذي عقده رئيس السلطة، محمود عباس، على نحو منفرد. رفضت «حماس» و«الجهاد الإسلامي» والجبهتان «الشعبية» و«الديموقراطية» و«المبادرة الوطنية» المشاركة، وشكلوا هيئات شعبية وأهلية لـ«مسيرات العودة».
بدأت المسيرات في وقت كانت فيه غزة أمام خيارين مرّين


بعيداً عن الجانب السياسي الداخلي، شكّلت المسيرات وحجم المشاركة الكبير فيها مفاجأة للعدو الذي زجّ نصف قواته العسكرية تقريباً على طول حدود القطاع، خشية اقتحامها وإحراجه بوصول الفلسطينيين إلى بلادهم المحتلة. وهو في الوقت الذي كان يستعد فيه لمواجهة عسكرية، قد يضطر إليها مع «حماس»، وجد نفسه أمام آلاف يلقون الحجارة ويحرقون الإطارات ولا يخشون الاقتراب من الجنود الذين أطلقوا الرصاص والقنابل. جرى التعامل بعنف شديد مع الشبان والفتية لردعهم ومنعهم من الاقتراب من الحدود. وتركز الاستهداف بالرصاص الحي على الأطراف السفلية لإيقاع أكبر عدد من الإعاقات.
رغم العنف الإسرائيلي، استمرت المسيرات، ثم تطورت أدواتها لتضاف إليها الطائرات الورقية المُحمَّلة بفتائل مشتعلة، والبالونات الحارقة، وقصّ السلك، وصولاً إلى «الإرباك الليلي». كل ذلك أحدث ضغطاً كبيراً على العدو. الجيش وجد صعوبة في استمرار الاستنفار وتأمين الحدود، والمستوى السياسي اضطر إلى استجلاب المصريين والقطريين والوسطاء الأمميين لشراء الهدوء.
هكذا، توازى مع المسيرات عام من المفاوضات والوساطات التي قادها المصريون كوسيط مباشر، والقطريون كمموّل، والأمم المتحدة كإشراف. لكن بدا التحكم الإسرائيلي في مسار التفاهمات واضحاً، خاصة أن شراء الوقت والهدوء كان هدف تل أبيب الأول، ولا سيما كلما اشتدت حدة التظاهرات أو اقتربت الأمور من مواجهة عسكرية. مع ذلك، أظهرت الفصائل الفلسطينية قدرة على إرغام العدو على تقديم التحسينات الاقتصادية، فسمح بإدخال منحة قطرية خمس مرات. حتى حينما شعرت «حماس» بأن المنحة باتت أداة في يد إسرائيل للضغط عليها، رفضتها وطلبت تحويلها إلى العائلات الفقيرة.
عموماً، على مستوى الإنجازات التي حققتها «مسيرات العودة»، فإنها ألزمت المحافل الدولية والإقليمية بأولوية القضية الفلسطينية بعد سنوات من تهميشها، وأحيت مبدأ وفكرة حق العودة في ظلّ الواقع التطبيعي. كما وحّدت الفصائل ووجّهت البوصلة إلى العدو، وقلّلت من المناكفات الداخلية. وأيضاً، مثّلت ترسيخاً لثقافة المقاومة الشعبية لدى الفلسطينيين، وألهمت الشبان في «انتفاضة القدس» داخل الضفة والقدس المحتلة. كذلك، رسّخت الجرأة لدى الشباب وروح الإقدام في المواجهة، وهو ما ينظر إليه العدو كمؤشر خطير في المستقبل، ولا سيما أن جيشه بات يفتقر إلى مثل هذه الروح. وعلى الصعيد الدولي، رغم إعادة تذكير العالم بقضية العودة واللاجئين، فإن أبرز إنجازاتها كانت في نهاية الشهر الجاري، عندما تبنى «مجلس حقوق الإنسان» الأممي قراراً يدين الجيش الإسرائيلي بارتكاب جرائم تصل إلى «جرائم حرب» بحق المتظاهرين الفلسطينيين.
في المقابل، أُخذ على المسيرات أنها أفضت إلى خسائر بشرية كبيرة تمثلت في قرابة 280 شهيداً وعشرات آلاف المصابين، منهم المئات مِمَّن فقدوا أطرافهم. ولم تنجح المسيرات في الانتقال إلى الضفة والشتات، كما لم تستطع تجاوز حالة الانقسام الداخلي على رغم الالتفاف الشعبي حولها، ما دفع عدداً من كتاب الرأي وكوادر الفصائل إلى طلب مراجعة المسيرات وأهدافها وطرق عملها. مع ذلك، لا يمكن إنكار الإجماع الفلسطيني حول مشروعيتها، رغم انسحاب «فتح» من «الهيئة العليا»، وانتقاد آخرين ربطها بالوضع السياسي، وتأخرها في تحقيق إنجاز على صعيد الأزمة الإنسانية والاقتصادية الكبيرة.