صدّق «المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر» (الكابينت) على خطة رفعها الجيش لإعادة احتلال قطاع غزة بالكامل، وإسقاط حكم حركة «حماس». في الخبر كما يرد في الإعلام العبري تشديد مضاعف على أن لا علاقة للخطة والتصديق عليها بقصف تل أبيب بالصواريخ الخميس الماضي. وبالطبع، لا يعني تبلور الخطة ثم التصديق عليها تغييراً أو إشارة تغيير في موقف إسرائيل الممتنع عن خوض الحرب، كما لا يعني التوثب لها أو أنه مقدمة في سياقها، بل هو هدف في ذاته لخدمة أهداف أخرى مرتبطة أيضاً بالصراع والواقع الحالي مع الفلسطينيين.لا غرابة في أن يعدّ الجيش الإسرائيلي خطط حرب وسيناريوات ويستعد لها، فهذا جزء من مهمته القائمة في الأساس على خوض الحرب و/أو الاستعداد لها ضمن فرضيات معقولة وشبه معقولة، حتى تلك المتعلقة بمواجهات وحروب تُعدّ أرجحيتها منخفضة. والواقع أنه في حالة إسرائيل يحب أن يكون المسعى مضاعفاً، لكون هذا الكيان زرع في محيط رافض له، ويحيط به الأعداء، بغض النظر عن اللاتناظرية في القوة في بعض الساحات، كما هو الوضع مع الفصائل في غزة.
لكن أن تُعلَن هذه الخطط وتتمّ المصادقة عليها من قِبَل «الكابينت»، فهذه مسألة تثير أكثر من علامة استفهام، في توقيت بات يتطلب تخويفاً للفلسطينيين على أكثر من صعيد. بالطبع، هي في الدرجة الأولى حرب على الوعي، وجزء لا يتجزأ من الحرب على مستوى الردع لجهة ترسيخ وجوده وإعادة ترميمه. في الحالة الأولى، الهدف هو وعي الأعداء، ومحاولة التأثير فيه عبر تشويش ما ترسّخ لديه في الأشهر الأخيرة وصولاً إلى صاروخَي تل أبيب، وفيه أن إسرائيل غير معنية ولا ترغب وخارج إطار تفكيرها العملي خوض الحروب والمواجهات الشاملة مع القطاع، وتحديداً الحرب البرية والتوغلات.
في الواقع، هذا الانطباع يضعف واحداً من أهم أساسات الردع الذي تراهن عليه إسرائيل لمنع أعمال فلسطينية مبادر إليها ضد الاحتلال أو رداً على اعتداءاته. وإذا اعتقد الفلسطينيون أن إسرائيل تمتنع ولا تريد خوض المواجهات معهم، فهذا يزيد حافزيتهم للرد بقوة على اعتداءاتها، ويسهم أيضاً في دفعهم إلى خيارات عسكرية لتحقيق مصالحهم كما هو الوضع الآن، وهو ما يتوافق مع رؤية بعضهم أن صاروخَي تل أبيب جاءا قصداً لا خطأ. فلو رأى الفلسطينيون أن إسرائيل معنية بخوض حرب ضدهم، لما أطلقوا الصاروخين بـ«الخطأ».
ليبرمان: عملية «أريئيل» نتيجة ردّ إسرائيل الباهت على قصف تل أبيب


في موازاة ذلك، يراهن الجيش الإسرائيلي على إمكان إعادة الثقة به في وعي الإسرائيليين، بعد الضرر الذي لحق به في أعقاب الرد الباهت على قصف تل أبيب، حيث حُمّل هو، عملياً، مسؤولية الدفع باتجاه الامتناع عن اتباع «الخيارات الثقيلة» ضد غزة، وهي وظيفة داخلية قد لا تقلّ أهمية عن وظيفته تجاه الأعداء. لكن في المباشر، هدف الإعلان هو التفاوض الجاري بين الجانبين برعاية مصرية. فإذا لم يخشَ الفلسطينيون إقدام إسرائيل على المواجهة في حال فشل التفاوض، فلا يمكن تليين مواقفهم وتقليص سلة مطالبهم لقبول التهدئة. كذلك، لا يمكن لتل أبيب أن تتمسك بالحد الأدنى المطلوب منها لاستمرار الجزء الأكبر من الحصار ما لم تتكون حالة خشية (ردع) لدى الفلسطينيين تدفعهم إلى قبول ما أمكن، لاعتقادهم أن فشل المفاوضات يؤدي إلى المواجهة.
وصاروخا تل أبيب، والرد الإسرائيلي المحدود قياساً بواقعة كبيرة جداً كقصف هذه المدينة، جاءا لإعطاء صدقيةٍ عمليةٍ ميدانية. وهذه الصدقية جاءت أيضاً بعد سلسلة تقارير عبرية وتصريحات ومواقف، وكذلك وثائق وشهادات لكبار الضباط الإسرائيليين، تفيد بأن وحداتهم البرية غير جاهزة وغير قادرة، ولا ثقة لديها وبها لخوض القتال البري. اتحاد الصدقيتين، التوثيقية والميدانية، يُعدّ سلاحاً قاتلاً ضد الجيش الإسرائيلي، لأنه يعرّيه أكثر في كشف ضيق خياراته العملية، وإن كان يهدد بخلافها، وهو ما يستدعي بطبيعة الحال مواقف وتصريحات وتقارير، كما إعلان خطة احتلال غزة، لعلها تفيد في نزع الاعتقاد السائد لدى الفلسطينيين بأنه غير معني بخوض المواجهات البرية.
وفي تقرير موقع «والا» الإخباري، رُبطت الخطة بـ«إن تطلب الأمر ذلك»، وهي عبارة مطاطة جداً وحمالة أوجه، ومن شأنها إلغاء معناها بنفسها، رغم أنها مرتبطة كذلك بالمباحثات الجارية بين الجانبين بخصوص التهدئة، وتهدف إلى تعزيز الموقف الإسرائيلي في التفاوض على سلة التسهيلات الاقتصادية مقابل التهدئة، وذلك عبر تخويف الفلسطينيين من مرحلة ما بعد فشل التفاوض، المفضية وفق التهديد إلى المواجهة الشاملة، وصولاً إلى حدّ إعادة احتلال القطاع!
مع ذلك، يمثّل نزع الاعتقاد الفلسطيني الذي ترسخ في الوعي، بأن إسرائيل غير معنية بخوض الحرب، مهمة صعبة لا يمكن ضمان نتيجتها عبر تصريح وتقرير من هنا أو هناك، بعد التأكد من هذا عملياً الخميس الماضي، إذ تبيّن للفلسطينيين أن مقولة الانجرار والتدحرج إلى المواجهة الشاملة نتيجة هذا الحادث أو ذاك مقولة فاسدة، وتحديداً بعد «حادث» تل أبيب الصاروخي. أيضاً، يُظهر إعلان الخطة وتعميمها مدى الضرر الذي لحق بردع إسرائيل وموقفها التفاوضي، لكن النتيجة هي نفسها، إن جاء القصف بالخطأ كما ورد عن الجيش، أو إن جاء عمداً وفقاً لفرضيات عبرية أخرى شككت في رواية الخطأ، ورجّحت سخرية «حماس» من إسرائيل للمرة الثانية بعد حادثة الخطأ أيضاً في قصف بئر السبع في تشرين الأول الماضي.
وفي التداعيات غير المباشرة لقصف تل أبيب، تحفيز لشنّ عمليات ضد الاحتلال، ومنها عملية أمس في مستوطنة «أريئيل» في الضفة المحتلة. ورغم إرادة المزايدة على خلفية انتخابية، لا تبعد صحة ما صدر عن وزير الأمن السابق، أفيغدور ليبرمان، من أن عملية «أريئيل» جاءت نتيجة رد إسرائيل الباهت على قصف تل أبيب. في المحصلة، لا يمكن إغفال ما حدث الخميس الماضي، وما كشفه ميدانياً من «ضوابط» إسرائيلية حيال المواجهة مع غزة. وإعلان خطة احتلال القطاع هو جزء من محاربة ما ترسّخ في وعي العدو لا أكثر، مع التشكيك المسبق في إمكانات هذا المسعى الذي يعزز ما تكوّن في وعي الفلسطينيين، وربما من وراءهم أيضاً.