«لا يوجد حلّ بسيط لإدلب بالنظر إلى العدد الكبير من الجهاديين الذين رسّخوا أنفسهم، والتكلفة العالية لأي محاولة لإزاحتهم». هذا جزء من تحليل «مجموعة الأزمات الدولية» للوضع في إدلب في أيلول الماضي، وهو تحليل لا يُجافي الواقع في شيء. وتفرض أنقرة نفسها لاعباً أساسياً في ملف إدلب، بالاستفادة من جملة معطيات متداخلة، فيما يفرض ملف إدلب نفسه على كل ما يتصل بتطورات المشهد السوري، ومستقبل البلاد.بين عام 2011 واليوم، تبدّلت أولويات أنقرة غير مرة على وقع تطورات الحدث السوري وتغيّر موازين القوى. في العام الأول، بدا أن كل الضغوط التركية تطمح إلى تحقيق هدف أساسي هو انتزاع «مكتسبات سياسية» لمصلحة جماعة «الإخوان المسلمين». سرعان ما اتسعت الطموحات الى حدّ التفكير بإمكان «إسقاط النظام» والتمهيد لانفراد «الجماعة» بالحكم. في أيلول 2012، أطلق الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أحد أشهر التصريحات على امتداد الأزمة، وعبّر من خلاله عن ثقته بأنه «سيؤدي صلاة العيد (الأضحى) في الجامع الأموي بدمشق».
انخفضت الطموحات بعد أربع سنوات من ذلك التصريح، لتتمحور في الدرجة الأولى حول «ضمان أمن تركيا»، ولا سيما في ما يتعلّق بـ«الخطر الكردي». في الواقع، كان انهيار المحادثات بين أنقرة و«حزب العمال الكردستاني» إحدى الأكلاف العالية التي دفعتها أنقرة في الأزمة السورية. كان الطرفان قد دخلا في محادثات سرية رفيعة المستوى في عام 2009 في أوسلو، وترافق بدؤها مع إعلان «الكردستاني» وقف إطلاق نار، لكن، في حزيران 2011 انهارت الهدنة ومعها المحادثات. استمرّ التوتر بين الطرفين حتى أواخر عام 2012، حين أُعلن عن محادثات جديدة، لكنها لم تلبث أن انهارت بدورها، ولا سيما مع تنامي دور «الوحدات» الكردية في الأزمة السورية.
لا يتسع السياق للاستفاضة في شرح التداخلات بين هذا الملف وملف إدلب، غير أن الربط بينهما بات أحد العوامل الأساسية في توجيه سلوكيات أنقرة في الشأن السوري بعمومه، وفي شأن إدلب خصوصاً.
تركّز أنقرة على مواصلة اختراق المجموعات «الجهادية»


في المرحلة الراهنة، تُراوح طموحات أنقرة ما بين حدّ أدنى هو تأخير حلّ ملف إدلب إلى ما بعد إيجاد حلّ لملف مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» شرق الفرات، أو حلحلة عُقد الملفّين بالتوازي، وحدّ أعلى يطمح إلى استنساخ سيناريو «شمال قبرص» في المنطقة الممتدّة ما بين جرابلس وإدلب. بين «الحدّين»، ثمة احتمال أشدّ واقعية، يبدو الوصول إليه «أكبر المكاسب» التركية الممكنة على المدى المتوسط، وهو السعي إلى حصد الفوائد الاقتصادية من عملية إعادة إعمار سوريا، والحفاظ على دور فعّال في شكل الحل النهائي، وبالتالي في تشكيل المستقبل السوري. ومن بين الأدوات التي تعدّها أنقرة لخدمة هذا الهدف، تبرز «إعادة هيكلة» المجموعات المسلحة في مناطق «درع الفرات»، والعمل على إيجاد «أجسام سياسية فاعلة».
وحتى وقت قريب، كان استنساخ هذا النموذج في إدلب يبدو أمراً مستحيلاً، نظراً إلى التباين الكبير بين المجموعات المحسوبة على «درع الفرات»، وتلك «الجهادية» المهيمنة على إدلب، وعلى رأسها «هيئة تحرير الشام/ النصرة»، سواء في ما يتعلق بالعلاقة التركية مع كلّ من النموذجين، أو ما يتصل بالبنى التنظيمية والأيديولوجية على المقلبين. لكن مجريات الأحداث على أرض الواقع تشير إلى أن أنقرة وضعت بالفعل استنساخ هذا السيناريو موضع التنفيذ، برغم إدراكها صعوبة العملية.
تعمل أنقرة في ما يخصّ إدلب على مستويات عدة: سياسي، واستخباري، ومجتمعي. يركز الشق الاستخباري على مواصلة اختراق المجموعات «الجهادية»، فيما يلحظ العمل السياسي أهمية الحفاظ على الشراكة مع موسكو وتعزيزها، إضافة إلى مواصلة العمل مع واشنطن سعياً إلى مقايضات في ما يخص الملف الكردي وملف «القاعدة» في إدلب، إلى جانب التلويح بورقتَي «اللاجئين» و«الفلتان الأمني» في وجه أوروبا، ولا سيما عند المنعطفات الحساسة (كما حصل قبل إبرام اتفاق سوتشي). في الوقت نفسه، تسعى أنقرة إلى تعزيز رصيدها لدى «الحاضنة الشعبية»، سواء عبر مواصلة ترويج فكرة أن تركيا هي «الحامي والضامن»، أو عبر منظمات المجتمع المدني التركية (NGOs) التي لوحظ أنها زادت نشاطاتها «الإنسانية» (مثل توزيع الخبز والمعونات الغذائية) في بعض مناطق إدلب بعد توقيع «اتفاق سوتشي». بطبيعة الحال، يمثل الملف «الجهادي» تحدياً مهماً لأنقرة التي تراهن على «براغماتية» زعيم «تحرير الشام» أبو محمد الجولاني، واستعداده لقيادة رحلة تحولات جديدة، تستلهم نهج «جماعات الإسلام السياسي»، نكوصاً من «الجهاد الكوني»، إلى «الجهاد المحلي».
رغم أن دول المحور المضاد لدمشق تخوض الحرب بأولويات متباينة في ما بينها، فإنها تتشارك أهدافاً «عُليا»، قابلة للتغير بين مرحلة وأخرى، للتكيّف مع معطيات المرحلة. تتوخّى التحركات الغربية العمل على «تحسين شروط التفاوض» في مرحلة تالية، والتأكد من أن المعطيات تتيح للغرب صياغة شروط التسوية النهائية، أو جزء وازن منها على أقل تقدير. إن نجاح مسار «أستانا» في الوصول إلى توافقات جزئية «بالتقسيط» يبدو أمراً غير قابل للاستنساخ مجدداً في ما يخص «الحلّ النهائي»، بفعل الإصرار الغربي على منع «ضامني أستانا» من الوصول إلى حلول نهائية من دون جلوس الغرب إلى الطاولة. بين هذا وذاك، يكتسب ملف إدلب أهمية مضاعفة، بوصفه واحداً من «أدسم الملفات» الخارجة عن سلطة دمشق، وأكثرها احتواءً للتعقيدات والتناقضات، ما يجعل دخول اللاعبين المؤثرين على خطّه، في لحظة فارقة ما، مسألة يسيرة.