في السنوات الأولى للحرب المحلية ـــ الإقليمية ـــ الدولية في سوريا، كان من الواضح أن الحكومات الغربية قد تغاضت عن خروج مئات العناصر، الذين يُصنَّف قسم كبير منهم «متطرّفاً» من قِبَل أجهزة هذه الحكومات الأمنية، عبر مطاراتها، للالتحاق بـ«الجهاد» في سوريا. كشفت أفلام «داعش» الدعائية في ما بعد عن مدى تنامي هذه الظاهرة التي تأكّد الغربيون من خطرها «الجانبي» عليهم بداية عام 2015، عند وقوع هجمات باريس التي نفذها بعض هذه العناصر.قبل هذا التاريخ، كان الموقف السائد يستلهم النموذج الأميركي في حرب فيتنام: «دعوا الآسيويين يقتلون الآسيويين»، أي في حالتنا هنا: «دعوا سنياً يقتل شيعياً». وبمعزل عن عدم مطابقة هذه المقاربة الغربية لحقيقة الصراع الجيوستراتيجي الدائر في سوريا، وإصرارها على تأويله طائفياً بما يخدم أغراض أصحابها في الإمعان في تدمير دول العالمين العربي والإسلامي، واستهداف خصومهم بشكل خاص، أطراف محور المقاومة، فهي انتهت إلى فشل ذريع، دَفَع أصحابها إلى اعتماد مقاربة أخرى تنطلق من ضرورة محاصرة الظاهرة «الجهادية» والقضاء عليها.
وإذا كانت لهذه الظاهرة محلياً، في سوريا والعراق، أسباب بنيوية، بعضها وثيق الارتباط بسياسات الغرب لعقود حيال بلدان المنطقة، وبحروبه التي أفضت آخرها عام 2003 إلى محو العراق، فإن عولمتها أيضاً مرتبطة بسياسات هذا الغرب الداخلية كما الخارجية. فالسياسات النيوليبرالية التي اعتمدتها الحكومات الغربية المتعاقبة في داخل بلدانها، في سياق مشروع «العولمة السعيدة»، والتي أدت إلى إفقار وتهميش قطاعات واسعة من سكانها كما يظهره اليوم تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية، تلازمت مع تزايد التمييز العنصري المؤسّساتي، والسياسات الأمنية المتشددة تجاه الفئات التي تعود أصولها إلى بلدان الجنوب.
هذه الفئات، أي المهاجرين من المستعمرات الغربية السابقة وأبناءهم وأحفادهم، هي الأكثر تضرراً ـــ من بين الطبقات الشعبية ـــ من النيوليبرالية، ومن طغيان المقاربة الأمنية «للحفاظ على الاستقرار والنظام»، والتي باتت تعتبرها طابوراً خامساً داخلياً في الخطاب التبريري الأيديولوجي والإعلامي الذي يرافقها. هي الأكثر معاناة من البطالة البنيوية، وتتعرّض للتمييز عند محاولاتها الحصول على عمل أو مسكن مقارنة بفرص «السكان الأصليين البيض»، على الرغم من أن أفرادها مواطنون نظرياً، وتمارس الأجهزة الأمنية بحقها عنفاً يرقى إلى مستوى التنكيل، أدى إلى اندلاع انتفاضات شبابية حقيقية في ضواحي المدن الكبرى وأحيائها الفقيرة في أكثر من دولة غربية. يسود شعور عميق لدى أوساط متسعة من هذه الفئات بأن السياسات الاستعمارية التي طُبِّقت في بلدان آبائها وأجدادها ما زالت تُطبَّق بحقها داخل الدول الغربية، أي إنها أمام استمرارية استعمارية، تؤجّج الغضب في نفوس أبنائها، وتعزز الاقتناع لدى شريحة معتبرة بينها بعدم الانتماء، وحتى بالعداء للدول والمجتمعات التي تتعامل معها على هذا الوجه.
خاضت هذه الفئات، في السنوات الأربعين الماضية، نضالات طويلة من أجل المساواة في الحقوق، غير أن نتائج ذلك لم تكن مثمرة بالنسبة إلى غالبيتها، بل من الممكن القول، بسبب التحولات السياسية والاقتصادية العالمية، إن أوضاعها ازدادت سوءاً. ولا شك في أن الحروب العدوانية التي شنّها الغرب على بلدان عربية وإسلامية عمّقت الشعور بالمظلومية والمهانة والغضب بينها. كما أن ثمة نقطة أخرى شديدة الأهمية في سياق هذه الفوضى العالمية العارمة، وهي تراجع وهج جميع الأفكار التحرّرية التي ألهبت حماسة ملايين البشر، وحفّزتهم على النضال من أجل عالم أفضل.
لا أمل بعالم أفضل، حتى الآن على الأقل، بالنسبة إلى ملايين الفقراء والمنكوبين في أنحاء المعمورة. يقول الأنتروبولوجي آلان بيرتو في «أبناء الفوضى»: «عندما تبدو نهاية العالم نفسه أكثر صدقية من نهاية الرأسمالية، يسلك التمرد طريق الشهادة. إن انسداد أفق الثورة مهّد الطريق للغضب العارم للأبناء الضالّين للفوضى السياسية والإنسانية الناجمة عن العولمة النيوليبرالية». أفسح الغرب المجال لأبنائه الضالّين للذهاب لقتال أعدائه والموت بعيداً عنه، وهو يريد اليوم القضاء على مَن بقي حياً منهم ومن عائلاتهم، حتى ولو كانوا أطفالاً رضّعاً!