بغداد | حتى الآن، لا يزال الموقف العراقي ضبابياً إزاء مصير مسلحي تنظيم «داعش» الأجانب وعوائلهم، خصوصاً أولئك المقيمين في مخيمات داخل الأراضي السورية. أواخر شهر شباط/ فبراير الماضي، تسلّمت بغداد من «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد) ـــ بالتنسيق مع واشنطن ـــ 250 مسلحاً، بينهم 13 فرنسياً. يومها، انفتح نقاش حول كيفية معالجة هذا الملف، فيما ظهر تضارب في شأنه بين رئاستَي الجمهورية والوزراء؛ إذ أعلن برهم صالح أن مسلحين أجانب سيُحاكمون في العراق وقد يصدر بحقهم حكم الإعدام إذا ما أُدينوا، في حين أكد عادل عبد المهدي أن حكومته «لن تستقبل الأجانب الذين رفضتهم دولهم».الحدّ الأدنى الذي يدعو البعض إلى تبنّيه هو أن يُحاكم الأجانب ــــ وحتى العرب ــــ الذين ارتكبوا انتهاكات في العراق أمام المحاكم العراقية، فيما يتمّ إخضاع عوائلهم لتحقيقات خاصة، لكن هذا المقترح لم يحظَ بإجماع بعد. والجدير ذكره، هنا، أن مجموعة من الدول طالبت بإعادة أبنائها إليها، من دون إخضاعهم لأي محاكمة أو تحقيق، مثلما هي حال السعودية والإمارات اللتين مارستا ضغوطاً على العراق لتسلّم أكثر من 50 مسلحاً مع عائلاتهم، عبر نقلهم مباشرة من الحدود السورية ـــ العراقية إلى الحدود العراقية ـــ السعودية، وفقاً لما تفيد به مصادر دبلوماسية «الأخبار». أما الجدل الحادّ فيدور حول «الدواعش» الذين قاتلوا في سوريا، من دون أن تثبت عليهم تهمة القتال داخل الأراضي العراقية.
طالبت دول مثل السعودية والإمارات بإعادة مواطنيها من دون محاكمة


وعلى الرغم من مرور أكثر من شهرين على بدء معركة الباغوز (آخر المناطق المأهولة الخاضعة لسيطرة «داعش» في سوريا)، وخروج قوافل المسلحين إلى مخيم الهول السوري، لا يزال الموقف العراقي متذبذباً، مع أن عامل الوقت لا يلعب لصالح بغداد، إذ إن «قسد»، حليفة واشنطن، لا تمانع مثلاً إطلاق سراح «دواعش» عراقيين وسوريين، بناءً على طلب عدد من شيوخ الشرق السوري والغرب العراقي ووجهائهما، من دون أن تخضعهم لأي تحقيق، كما فعلت أخيراً لدى إفراجها عن 283 عنصراً من هؤلاء. وفي ظلّ الحديث عن إمكانية ترحيل دفعات أخرى من «الهول»، تضمّ أيضاً مسلحين أجانب، يصبح التحدي أمام السلطات العراقية أكثر إلحاحاً.
في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، طرح مستشار الأمن الوطني العراقي، فالح الفياض، خلال لقاءاته بالمسؤولين السوريين وعدد من قادة «قسد»، فكرة قبول العراق محاكمة الأجانب على أراضيه، مقابل حصوله على ضمانات وتعهدات دولية، وقروض ومنح للمساهمة في إعادة الإعمار، وفقاً لما تفيد به مصادر أمنية «الأخبار». لكن هذه «الصفقة رُفضت من قِبَل دوائر حكومية عراقية معنية بالملف، فيما حذّر آخرون من أن يتحوّل العراق إلى غوانتنامو، وقبلة لاستقبال الدواعش الهائمين في العالم».
في هذا الإطار، يرى عضو لجنة الأمن النيابية، النائب عن محافظة الأنبار محمد الكربولي، أن باستطاعة العراق «تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية من هذا الملف»، داعياً حكومة بلاده إلى «مطالبة الدول الغربية بالمساندة في التعامل مع مسلحي داعش، ومنح العراقيين مساعدات مقابل إنهاء هذا الملف». ويلفت، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «القوى السياسية وقفت في وجه عبد المهدي عندما أراد الإعلان عن موقف عراقي واضح بشأن عناصر داعش الأجانب، ومارست ضغوطاً إعلامية عليه»، معتبراً أن ذلك حال دون أن يكون للعراق موقفٌ في شأن هؤلاء، فـ«المسألة ليست بالأمنية البحتة، بل هناك جوانب سياسية... ولا بد للأمم المتحدة والمجتمع الدولي من أن يكون لهما دور، إضافة إلى البرلمان، في اتخاذ مسار يحقق المصالح بعيداً عن الرهانات والتقاطعات».
من جهتها، تواصل واشنطن، في العلن، الضغط على حلفائها الأوروبيين للقبول بمواطنيهم الذين كانوا يقاتلون مع «داعش»، والمعتقلين في سوريا. لكن ذلك لا يمنعها من القيام بجهد سري للاستثمار في هؤلاء، إذ تؤكد مصادر ميدانية، لـ«الأخبار»، أن عدداً من قادة التنظيم الأجانب «نُقلوا من ميدان القتال عبر الطائرات المروحية إلى مناطق محاذية لقاعدة التنف»، وتضيف أن القوات الأميركية عمدت من هناك إلى «تفريقهم»، حيث نقلت بعضهم إلى القاعدة الأميركية في الشدادي السورية، والبعض الآخر إلى قاعدة عين الأسد الجوية في الأنبار العراقية، من دون أن يُعرف مصيرهم.



لا محاكمات عادلة في العراق؟
خلال السنوات الماضية، قضت المحاكم العراقية بإعدام أكثر من 6 آلاف مسلح متهم بارتكاب جرائم جنائية في مختلف أنحاء البلاد، ما يجعل تلك المحاكم قادرة على التعاطي مع ملف «الدواعش» الأجانب. لكن، وفقاً لخبراء قانونيين تحدثوا إلى «الأخبار»، فإن القوانين العراقية تفتقر إلى النصوص التي تتيح محاكمة هؤلاء، وحتى الدول الغربية لا يمكنها الطلب من العراق إجراء محاكمات لرعاياها، بسبب وجود عقوبة الإعدام، وهذا مخالف للقوانين الأوروبية، «لكن من الممكن غضّ الطرف عما يحصل لهم وعدم المطالبة بشيء». ويرى هؤلاء الخبراء أنه «إذا ما جرى الحديث عن محاكمات عادلة، وليس صفقات سياسية، فإن القانون العراقي يحول دون إجراء محاكمات من هذا النوع»، لافتين إلى أن «العراق، وإن وقّع على اتفاقية روما المرتبطة بالمحكمة الجنائية الدولية، لكن المصادقة على تلك المعاهدة لم تدخل في المدوّنة القانونية العراقية، ما يعني عدم وجود قوانين تتيح للمحاكم العراقية محاكمة هؤلاء». المفارقة أن هذه المحاكم التي طالما انتقدتها باريس ولندن وواشنطن، هي نفسها التي تطالب تلك العواصم اليوم بمحاكمة عناصر «داعش» أمامها.