سجّلت «تفاهمات سوتشي» نصفَ خطوةٍ على طريق تنفيذها، بعدما ظلّت بنودها لفترة طويلة حبراً على ورق. وفي توقيت دقيق، أعلنت أنقرة، أمس، تسيير دوريات في محافظة إدلب، في إطار «عملية مشتركة مع موسكو». ونقلت وكالة «الأناضول» عن وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، قوله إن «الدوريات التركية والروسية في محيط إدلب تُعدّ خطوة مهمة لحفظ الاستقرار ووقف إطلاق النار». وتكتسب نصف الخطوة هذه أهمية رمزية في الدرجة الأولى، نظراً للتطورات النارية التي عاشتها خطوط التماس في الفترة الماضية، إلى حدّ أوحى بأن التفاهمات باتت عرضة للانهيار في أي لحظة.تسيير الدوريات لا يعني بالضرورة أن توافقات إدلب قد أُنقذت، بقدر ما يعني أنها مُنحت مهلةً جديدة. وبرغم عدم صدور تعليقات سورية فورية، تقول المعلومات المتوافرة إن النقاشات على خط دمشق ـــ موسكو تكثّفت في خلال الأسبوع الأخير، متضمّنة مطالب سورية بالضغط على أنقرة لـ«تنفيذ التزاماتها». ولا يمكن عدّ «تسيير الدوريات» تحقيقاً للمطلب السوري، ما لم يترافق مع خطوات أخرى أناطتها «توافقات سوتشي» بأنقرة، ولم تُنفَّذ. ويأتي على رأس تلك الالتزامات «سحب السلاح الثقيل»، وإخراج المجموعات المتطرفة من «المنطقة المنزوعة السلاح»، وهما أمران لم يُنفّذا إلا بنحو محدود، وبصورة أقرب إلى الاستعراض الإعلامي. وتقول معلومات «الأخبار» إن «تسيير الدوريات مجرّد تفصيل في إطار إجراءات أوسع، اتُّفق على تنفيذها بين موسكو وأنقرة في غضون شهر على الأكثر». ويأتي على رأس تلك الإجراءات «العمل الجدي على فتح أوتوستراد حلب ـــ دمشق (M5)، في خطوة أولى يليها على الفور فتح أوتوستراد حلب ـــ اللاذقية (M4)». أما الإجراء الأهم، فـ«إلزام المجموعات المسلحة بسحب السلاح الثقيل تدريجاً، من المناطق المتفق عليها».
تبدو ورقة اللاجئين جاهزة للاستخدام عند أي إشارات على عمليات عسكرية


ويصعب الحكم على جدية أنقرة في تنفيذ الإجراء المذكور، لكن المؤكد أنه بات أمراً ممكناً بـ«أقلّ الخسائر»، حال توافر شرطين أساسيين: أولهما الإرادة التركية، وثانيهما التزام «هيئة تحرير الشام». وتقول مصادر معارضة مواكبة للمشهد في إدلب، إن «تحرير الشام قد حصلت على مغريات كثيرة لتنفيذ هذا الالتزام، على رأسها إطلاق يدها في معظم مناطق إدلب، وضمان تمكينها من إدارة شؤون المحافظة». وتفرض تعقيدات وحسابات كثيرة نفسها على زعيم «تحرير الشام» أبو محمد الجولاني، على طريق تنفيذ هذا البند، ولو توافرت لديه الرغبة والنيّات. وعلى رأس تلك التعقيدات استمرار التباين في وجهات نظر «مراكز الثقل» داخل «الهيئة» إلى هذه الخطوة، ما بين متحمّس ومتحفّظ ورافض. برغم ذلك، تُجمع مصادر عدة على أن «اتّخاذ الجولاني هذا القرار بات اليوم أسهل بكثير، بعدما عمل طوال الفترة السابقة على ترتيب الأجواء الداخلية».
ويبدو مُسلَّماً به، أن أنقرة لن تسعى إلى إمرار تنفيذ التوافقات فرضاً، لجملة أسباب تتمحور حول إدارة العلاقة مع «الهيئة» بدقة، وبما يزيل مخاطر انزلاقها نحو المفاجآت. ويتعلّق الأمر في الدرجة الأولى بالخشية من ردود فعل انتقامية (تفجيرات وهجمات انتحارية) قد يغامر بعض «العناصر الجهاديين غير المنضبطين» في الإقدام عليها (للمفارقة، يبدو هذا الهاجس حاضراً أيضاً في حسابات الجولاني). ولا يزال الخطاب «القاعدي» داخل إدلب يحافظ على لهجة رافضة لـ«تحويل قضية الجهاد إلى بيدق على رقعة المصالح». ويتبنّى هذا الخطابَ كلٌّ من تنظيم «حراس الدين» و«جبهة أنصار الدين»، وبعض المجموعات «القاعدية» الصغيرة. ويتبّناه عدد من «المهاجرين» (وهم «الجهاديون» غير السوريين) الذين يخشون أن تُفضي التنازلات إلى إخراجهم من المشهد في نهاية المطاف.
ووسط هذه المعمعة، يغدو الرهان على التزام أنقرة تنفيذ مسؤولياتها المعلّقة، ضمن مهلة زمنية محدودة، ضرباً من التفاؤل المفرط. تأسيساً على كلّ ما تقدم، قد يصحّ تصنيف تطورات أمس في خانة الجهود التركية المستمرة لشراء الوقت، والحرص على إعادة تبريد الجبهات، سواء لأسباب داخلية ترتبط بالانتخابات البلدية القريبة، أو إقليمية يكمّلها مشهد شرقيّ الفرات وسجالات «المنطقة الآمنة» المستمرة. ولا تبدو الحسابات التركية غافلةً عمّا يمكن أن تؤول إليه الأمور إذا ما انقضى الوقت، وعاد التصعيد في صورة أكبر. وتبدو ورقة اللاجئين جاهزة للاستخدام عند أي إشارات على عمليات عسكرية مستقبلية، لا يجري التنسيق في شأنها مع أنقرة. وربّما كان أبرز ما تضمّنه كلام وزير الدفاع التركي أمس، قوله إنه «إذا استمرت الهجمات وبدأت الهجرة، فإن لجوء 3.5 ملايين شخص لن يكون فقط إلى تركيا وأوروبا، بل إلى الولايات المتحدة أيضاً».