عمّان | استضافت العاصمة البريطانية لندن جلسات مؤتمر «مبادرة لندن 2019» بمشاركة 450 شخصاً يمثلون 60 دولة ومؤسسة دولية، بجانب قادة مؤسسات مالية ومندوبين عن صناديق استثمار عالمية وقطاع خاص، من أجل حشد ائتلاف دولي من القادة العالميين والرؤساء التنفيذيين للشركات الدولية والمستثمرين للاستثمار في الأردن، وفتح الطريق أمام «التحول الاقتصادي» للمملكة. وتركّز الحديث في المؤتمر، أمس، على خطة خمسية جديدة بالشراكة مع البنك الدولي، تضاف إلى خطة خمسية أخرى لتحفيز النمو (2018 ـــ 2022)، أقرّها الأردن بالشراكة مع صندوق النقد الدولي عام 2016، وبدأ مخاض تطبيقها العام الماضي. أما ما يبحث عنه الأردن الآن، فهو نوع من المكافأة مقابل خطواته الموجعة المتمثلة في رفع الدعم عن الكثير من السلع، وزيادة قاعدة الخاضعين لضريبة الدخل، واستمراره في تقديم الدعم للاجئين السوريين على رغم تراجع المنح المُقدَّمة إليه، وعدم إيفاء دول كثيرة بتعهّدها بملايين الدولارات للمملكة استجابة للأزمة السورية، فضلاً عن تسريح العاملين في عدد من المنظمات غير الحكومية التي كانت تعنى بدعم السوريين في الأردن بدءاً من أيلول/ سبتمبر من العام الماضي.
قدمت بريطانيا 50 مليون جنيه إسترليني لدعم 22 ألف سوري في المملكة(أ ف ب )

هذا تحديداً ما أشار إليه الملك الأردني، عبد الله الثاني، في المؤتمر بقوله: «أزمة اللجوء السوري مسؤولية دولية لم تُوزَّع أعباؤها بعدل، باستثناء بعض الشركاء الدوليين»، في حين كان إلى جانبه رئيس الوزراء، عمر الرزاز، الذي شارك ثالوث الخارجية (الملك، ومستشاره مدير مكتبه، ووزير الخارجية) هذه المناسبة الاقتصادية ــــ السياسية، والتي أعلن فيها أن سياسة «الباب المفتوح» في استقبال اللاجئين تكلّف المملكة 2.5 مليار دولار أميركي سنوياً.
الحكومة الأردنية تحضرت جيداً لهذا الحدث، من دون أن ترفع سقف متطلباتها، بل كانت قد أقرّت قبل نحو عشرة أيام، مع منظمات الأمم المتحدة والدول المانحة والمنظمات غير الحكومية، «خطة الاستجابة الأردنية للأزمة السورية لعام 2019»، على قاعدة أن معضلة الاقتصاد الأردني الآن هي العجز في الموازنة الناتج من الأزمة السورية وارتفاع فاتورة الطاقة. وبلغ حجم الخطة المذكورة نحو 2.4 مليار دولار، منها 700 مليون دولار للاجئين، ومثلها للمجتمعات المضيفة، ومليار دولار لدعم خزينة الدولة كي تتمكن الحكومة من تخفيض نسبة الدين العام.
في موضوع المديونية تحديداً، أشار رئيس الوزراء الأردني إلى أن مديونية شركة الكهرباء الوطنية بلغت أكثر من 5.5 مليار دولار. لكن الغريب أن رئاسة الوزراء، التي تدرك تماماً حجم الخسائر الخيالية للشركة، والتي تصل إلى أكثر من 20 ضعف رأسمالها المكتتب به (أي أنها تحت «التصفية الإجبارية» وفق قانون الشركات الأردني)، وقّعت باسمها اتفاقية الغاز مع إسرائيل، وهي الآن تسعى إلى حل أزمة ديونها عن طريق دعم خارجي!

الدمج الخفي للاجئين
يبحث الأردن عن حلول لاقتصاده المنكمش، وعن فرص تجارية جديدة ودعم لمناخ الاستثمار فيه، لا سيما أن المنظمين يرون أنه يمتلك واحدة من أكثر القوى العاملة تأهيلاً وتميزاً في المنطقة. وهو يدرك تماماً أن المجتمع الدولي يرى فيه حليفاً لمراكز القوى وقطبها الأميركي المؤثر، ومركز احتواء لأكثر من 1.3 مليون لاجئ سوري سيحدث تدفقهم على أوروبا إرباكاً مع الأعداد الهائلة التي وصلت بالفعل إلى القارة منذ بداية الحرب على سوريا.
وسواءً كان اللاجئون ورقة ضغط سياسية على سوريا، أو في أفضل السيناريوات كارثة إنسانية تحتاج المساعدة، فإن بريطانيا، المضيفة للمؤتمر، رفضت استقبالهم على أراضيها، وآثرت تقديم تبرعات إليهم. وهي بذلك وقفت إلى جانب دول الاتحاد الأوروبي، التي استيقظت أخيراً على مشكلة عدم اندماج اللاجئين في مجتمعاتها، وأثرها في فرص العمل ونسب الفقر والبطالة. عمّان تدرك هذا الأمر، وتعرف أن زمن المنح والعطايا قد ولّى، وأن الوقت قد حان لاستخدام خبرة طاقمها الوزاري في محاولة حلحلة العقد، خصوصاً أن لغة رئيس وزرائها تشبه لغة المؤسسات المالية العالمية، وهو الموظف السابق في البنك الدولي.
تجهّزت الحكومة الأردنية جيداً لهذا الحدث من دون أن ترفع سقف متطلباتها


من هنا، يبدي الأردن مرونة في ما يتصل بملفّ اللاجئين، وقضايا التمكين المجتمعي. صحيح أن مجتمعاً مثل المجتمع الأردني من الاستحالة فيه طرح موضوع دمج اللاجئين بمفهومه الأوروبي، أو فتح باب التوطين لهم، لكن هذا لا يعني عدم تقبّل عمّان فكرة الاستفادة من وجود اللاجئين، إما بالمماطلة في توطينهم لدى طرف ثالث، وإما بالدفع نحو عودتهم إلى سوريا عبر إغراءات على هامش عمليات إعادة الإعمار المرتقبة. ولذلك، باتت المملكة متمسكة بوجودهم بعد عودة سيطرة الدولة السورية على مناطقها الجنوبية، وبروز إمكانية عودتهم فعلاً، لكنه أمر لا تريده عمّان بسرعة.
من هنا، تُفهم الإشارات المتبادلة بين المجتمع الدولي والأردن. قبل أيام، قال الرزاز إن اللاجئين في الأردن لا يرغبون في العودة إلى بلادهم بسبب «ضبابية المشهد». وهذا ما كررته «المفوضية العليا لشؤون اللاجئين»، المشرفة على نحو 650 ألف لاجئ سوري مسجلين في سجلاتها، إذ ذكرت أن 71% منهم لا يريدون العودة بسبب الأوضاع الأمنية، وغياب مصدر للدخل. وعلى خلاف حساسية الوضع في لبنان، سعت عمّان، بالشراكة مع البنك الدولي، إلى إيجاد صيغة رسمية تمكّن السوريين من الانخراط في سوق العمل بإصدار تصاريح لهم، عدا الترويج لمناطق صناعية قريبة من مخيماتهم، ونسبياً من الحدود السورية، على حد سواء.
لكن محاولات الأردن تحقيق هذا الدمج الخفي لم تلقَ نجاحاً كبيراً حتى بين اللاجئين أنفسهم، عدا عن النقمة في الشارع الأردني على الأوضاع الاقتصادية ونسبة البطالة التي ربما تفوق النسبة المعلنة (18%). ومن هنا، تأتي أهمية «مبادرة لندن» لخلق فرص عمل جدية، مع التسويق للأردن كمقدم خدمات لوجستية موثوق لإعادة إعمار سوريا والعراق، ما يعني تحريك السوق الراكد على قاعدة المنفعة للجميع.

اتفاقات وتفاهمات
أياً يكن، لم يعد الأردن بخفّي حنين من لندن، إذ قدمت إليه اليابان منحة بـ100 مليون دولار، و300 مليون دولار قروض ميسرة، في حين جددت فرنسا اتفاقية الدعم مع عمّان بقيمة مليار يورو على مدار أربع سنوات. وخصّص البنك الأوروبي مليار يورو منحاً وقروضاً في مشروعات البنية التحتية، منها 65 مليوناً لتمويل مشروع قريب من منطقة الكرامة القريبة من جسر الملك حسين (المعبر الحدودي مع الضفة المحتلة). أما وزير الخزانة الأميركي، ستيفن منوتشين، فقال إن الالتزام تجاه الأردن «لا شك فيه»، إذ خصّصت واشنطن لذلك 1.3 مليار دولار، عدا الدعم الأميركي المباشر للاجئين، في وقت أشار وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، إلى أن بلاده ملتزمة دعم عمّان مالياً، متحدثاً عن فرص عمل في «مشروع نيوم». وقدمت بريطانيا، الدولة المضيفة، من جانبها، 50 مليون جنيه إسترليني لدعم 22 ألف سوري في المملكة، و25 مليون جنيه لدعم قطاع التعليم، إضافة إلى تعهدها ضمان قرض بقيمة 250 مليون دولار عبر «النقد الدولي»، بجانب منح بقيمة 850 مليون دولار على مدى خمس سنوات.
وفي الخلاصة، لن تتكشف مخرجات «مبادرة لندن» مباشرة، إذ إنها اتفاقات وتفاهمات خاصة بالمرحلة المقبلة، ومرتبطة بأولويات الدول المانحة أولاً وتطورات الإقليم ثانياً، ومدى احتواء الدولة الأردنية الضغط الداخلي من جهة، وضغوطات التسوية المتعلقة بـ«صفقة القرن» من ناحية أخرى، فيما يبقى عامل اللاجئين السوريين أنفسهم هو الحاسم في حصول عمّان على هذه المساعدات شبه المشروطة بالوجود السوري، إذ قد تقلب حركة عودة اللاجئين إلى قراهم ومدنهم كل الموازين.