يبدو أن المرحلة المقبلة في السودان، بعد شهرين وأسبوع من الاحتجاجات المستمرة، سيغلب عليها الطابع العسكري. هذا ما أراد الرئيس عمر البشير إيصاله إلى خصومه السياسيين والمحتجين المتظاهرين، في خطابه الأول من نوعه يوم الجمعة الماضي، وما صاحبه من قرارات وتعيينات. بدا ذلك، أيضاً، في تأدية ثمانية عشر والياً جديداً القسم أمام البشير، أول من أمس، ببزاتهم العسكرية، كما لو أن المناسبة اجتماع لقادة الجيش مع القائد الأعلى للقوات المسلحة. كذلك، يبرز في صلب رسالة البشير إلى خصومه السياسيين تعيين وزير الدفاع، عوض بن عوف، نائباً أول له مع الاحتفاظ بمنصبه، بدلاً من بكري حسن صالح، الذي لم يغب عن أي تشكيلة حكومية منذ ثلاثين عاماً، وهو آخر عضو في «مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني» التي أتت بالبشير إلى السلطة.
أعطت أوامر الطوارئ النائب العام سلطة التقرير بشأن رفع الحصانة عن أي شخص (أ ف ب )

وبموجب القرارات الجديدة، يحتمي البشير بالجيش، الذي عيّن منه حكام الولايات، مُطوِّقاً نفسه بمؤيدين له من المؤسسة العسكرية وعلى المستوى الشخصي، كرئيس الوزراء الجديد محمد طاهر إيلا، الشخص الوحيد الذي أعلن البشير صراحة قبل عامين أنه سيدعم ترشيحه لمنصب رئيس الجمهورية، كما نصره في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2017 على أعضاء المجلس التشريعي في «المؤتمر الوطني» في ولاية الجزيرة، التي كان حاكماً عليها حتى أول من أمس.
لكن في ظلّ عدم نجاح القرارات التي أعلنها في خطابه في امتصاص غصب الشارع ووضع حدّ للاحتجاجات، يُرجح متابعون أن تكون ثانية خطوات البشير تحريك الجيش للسيطرة على البلاد عبر انقلاب من نوع آخر، يستبق فيه الحدث ليعلن بعده الارتهان لحكومة انتقالية. وهنا، يبرز دور وزير الدفاع والنائب الأول لرئيس الجمهورية، باعتباره الشخصية الأوفر حظاً لقيادة المرحلة الانتقالية إلى حين قيام الانتخابات، التي لا يستبعد المراقبون أن يعلنها الرئيس مبكرة، باستخدام السلطات التي يمنحها إياه القانون.
مشروع عسكرة السلطة أراد البشير أن تظلّله حالة الطوارئ التي أعلنها الأسبوع الماضي، وهو ما بدا في أوامر الطوارئ الأربعة التي أصدرها أمس، والتي أعطته هامشاً أكبر في مواجهة كلّ من خصومه السياسيين (أمر الطوارئ رقم 1)، والمحتجين والنشطاء والصحافيين ووسائل الإعلام وحتى رواد مواقع التواصل الاجتماعي (أمر الطوارئ رقم 2)، وتجار المحروقات والدقيق والذهب والصرافين (3 و4)، وذلك بعقوبات تشمل السجن لمدد تصل إلى عشر سنوات، وغرامات، ومصادرة للأموال.
أجبرت الشرطة الأهالي على توقيع تعهدات بعدم خروج أبنائهم في المسيرات


إزاء ذلك، من المرجح أن تشهد الفترة المقبلة حملة اعتقالات واسعة تطاول قيادات من الصف الأول داخل الحزب الحاكم، وقيادات من المعارضة، تحت مظلة قانون الطوارئ، الذي يسمح للسلطة باتخاذ تدابير، كدخول أي مبانٍ أو تفتيشها أو تفتيش الأشخاص، وفرض الرقابة على أي ممتلكات أو منشآت، والحجز على الأموال، وحظر أو تنظيم حركة الأشخاص أو نشاطهم في أي منطقة أو زمان، واعتقال الأشخاص الذين يشتبه في اشتراكهم في جريمة تتصل بالطوارئ. وما عزز ذلك إعطاءُ الأوامر، النائبَ العام، سلطةَ التقرير في شأن رفع الحصانة عن أي شخص متهم بارتكاب جريمة معاقب عليها بموجب قانون الطوارئ وحماية السلامة العامة لسنة 1997، أو اللوائح أو الأوامر الصادرة بموجبه.
وفي ظلّ إصرار «تجمّع المهنيين السودانيين» على مواصلة الاحتجاجات، من المرجح أن يتجه البشير نحو مزيد من الاعتقالات بحق المتظاهرين، أو زيادة جرعات العنف المستخدم منذ بدء الاحتجاجات، والذي راح ضحيته العشرات بالرصاص الحي، وهو ما بدأه مساء أمس، بالتزامن مع أوامر الطوارئ، باقتحام قوات الأمن عدداً من البيوت، مستخدمة قانون الطوارئ كذريعة لإجبار الآباء على الحضور والتوقيع على تعهدات بعدم خروج أبنائهم في المسيرات السلمية، بحسب ما أفاد به «تجمع المهنيين». وينصّ أمر الطوارئ رقم 2 على حظر «التجمهر والتجمع والمواكب غير المرخص بها»، و«حظر التقليل من هيبة الدولة»، وكذلك الإضرابات وإقامة الندوات والتجمعات والفعاليات، كذلك يحظر إعداد الأخبار «التي تضرّ بالدولة» أو نشرها أو تداولها. لكن «تجمع المهنيين» دعا، مساء أمس، إلى الخروج إلى الشوارع للتظاهر تعبيراً عن رفضهم الكامل لأوامر الطوارئ في جميع أنحاء العاصمة والولايات، معلناً تنظيم وقفات احتجاجية صباح اليوم في جميع مستشفيات العاصمة والولايات.
وبموجب أوامر الطوارئ أيضاً، يحظر توزيع المحروقات والسلع المدعومة خارج القنوات الرسمية وتخزينها وبيعها ونقلها، ويُحصر تنظيم التعامل بالنقد الأجنبي وتحديد ضوابط خروج النقد والذهب عبر الموانئ والمعابر بيد الدولة. لكن وفق متابعين، لا تندرج تلك الأوامر في إطار مواجهة التدهور الاقتصادي والسياسي الحالي، بل تحسباً لما هو آتٍ، حيث يتوقع اقتصاديون أن تشهد الفترة المقبلة ضائقة أكبر، مصحوبة بارتفاع أسعار السلع وندرة في الخبز والوقود، نتيجة استنفاد الحكومة كل مخزونها من السيولة النقدية خلال الشهرين الماضيين لتوفير السلع والوقود، من دون أن تفرض أي زيادة خشية من تزايد الاحتجاجات، فضلاً عن إرهاق الخزينة العامة بالصرف على وضع الاستعداد الذي انتظمت فيه القوات الأمنية منذ بدء الاحتجاجات.