الأولوية للتخلّص من النموذج الاقتصادي القائم على الجزائر لعب دورها في بناء نظام عالمي جديد

طرحت «الحركة الديمقراطية الاجتماعية» في الجزائر (سليلة «الحزب الشيوعي») أول مرشح لها للانتخابات الرئاسية في تاريخ نشاطها الحزبي، وذلك في تحول ملحوظ في تعاطيها مع الاستحقاقات الانتخابية، بعدما كانت تلجأ سابقاً إلى المقاطعة، لعدم ثقتها بتنظيم السلطة للعملية الانتخابية. مرشح الحركة، فتحي غراس، برز في السنوات الأخيرة من خلال مناظراته التلفزيونية في مواجهة بعض رموز الإسلام السياسي، وهو من الشخصيات التي تتقن فن الخطابة، وتبدو متحررة من الحواجز الأيديولوجية التي عُرفت عن اليسار في الجزائر. في حوار مع «الأخبار»، يُقدم غراس قراءته للاستحقاق المقبل، خصوصاً بعد ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة، والذي يعني لدى العديد من المتابعين نهاية مبكرة للتنافس. ويطرح مرشح اليسار تصوّره، في حال فوزه، لدور الجزائر الخارجي وعلاقاتها مع القوى المحورية، متبنياً الدعوة إلى بناء نظام عالمي جديد يعيد التوازن إلى العلاقات الدولية.

هل باتت الانتخابات الرئاسية مغلقة بعد ترشح الرئيس بوتفليقة؟
منطق اشتغال السلطة في الجزائر غير مرتبط بشخص الرئيس، بل بطبيعة النظام السياسي القائم على سلطوية مرنة تتعايش مع تعددية سياسية انتُزعت بضريبة الدم، وأقصد هنا أحداث تشرين الأول/ أكتوبر عام 1988، التي شكلت بالنسبة إلي وإلى جيلي الحدث السياسي الأكبر. العملية السياسة في الجزائر للأسف، ولغاية الساعة، يرسم معالمها النظام الحالي. ويعتبر ترشح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة أحد تمظهرات ميزان القوة الذي صنعته السلطة عن طريق اختلاق أدوات قانونية وغير قانونية (إن تحتم عليها ذلك) لضمان استمراريتها. إذن، ليس الرئيس من يصنع النظام، بل النظام هو من ينتج موارده البشرية من رؤساء ووزراء وولاة ونواب ومنتخبين في المجالس المحلية. إن انغلاق العملية السياسية مرتبط بحزمة المصالح المهيمنة، القائمة على اقتصاد المضاربة، والاستيراد العشوائي، وتهريب الأموال إلى الخارج، الذي تتغذى منه طبقة متنفذة كمبرادورية (بورجوازية)، تؤطر العملية السياسية بالفساد والزبونية. إذن، حصر النقاش في شخص الرئيس ورقم العهدة، يعتبر عندي إحدى الأدوات المسخّرة لخدمة الاستمرارية من قِبَل السلطة الحالية. فكلما ابتعدنا عن الطرح الصحيح لمشاكل الجزائر، سنعيد إنتاج عجزنا عن حلها.

ما الضمانات التي تعتمدون عليها في دخولكم الرئاسيات، في ظلّ تنديد المعارضة الدائم بتزوير الانتخابات؟
أنا لا أدخل المعركة السياسة بمنطق المندّد، بل بروح المقاوم الذي يعي أن لا شيء في السياسة يُعطى عن طيب خاطر. الضمانات حتى في الديموقراطيات العتيقة هي وليدة ميزان القوة السياسي، بل إن القوانين تتغير بحسب لون المنتصر، وإلا فما الذي يفسر انحسار حيّز الحريات الديموقراطية في أوروبا مع سيطرة اليمين النيولبيرالي وانتقال الصراع إلى الشارع في العديد من هذه البلدان، نظراً إلى التضييق المسلّط على الأحزاب غير المنضوية تحت قبة المنظومة المالية المهيمنة، وخاصة قوى اليسار؟ إذن، الضمانة الوحيدة هي التجنيد الجماهيري، وهو الوحيد القادر على تغيير ميزان القوة لصالح قوى التغيير الديموقراطي والتقدمي، الذي سيضع الجزائر على سكة التنمية. علينا أن نجعل من الاقتراع موضوعاً للصراع السياسي، وشعاري هو «أيها المواطن استرجع صندوقك المسروق». الشعب الجزائري شعب مطلبي بامتياز، فعدد حركات الاحتجاج في الجزائر يتجاوز التصور (أكثر من عشرة آلاف كل سنة). الانتخاب هو الحق الوحيد الذي لا يزال خارج حقل الصراع. إذن، فلنُوسّع من قواعد الاشتباك السياسي السلمي، خاصة ونحن نرى تداعيات التغيير من الشارع، مع ما يسمى الربيع العربي، الذي تحول إلى ذراع للاستعمار الجديد. الشعب الجزائري تعلم من عشريته الدموية (سنوات الإرهاب)، ولم ينسَق لإغراءات الوعد الديموقراطي الكاذب المصوغ بأقلام الاستعمار الجديد. طريق النضال من أجل استرجاع الصندوق هو الطريق الأسلم.

تخوضون الانتخابات الرئاسية بعد سنوات من المقاطعة، هل هذا تغيّر في التكتيك أم الاستراتيجية العامة لحزبكم؟
كان موقفنا رافضاً للعملية الانتخابية جملة وتفصيلاً، عندما كانت الجمهورية موضوعاً للمساءلة باسم مشروع «الدولة الإسلامية» من قِبَل الإسلام السياسي. إن التعددية المشوهة التي فُرضت على الجزائر من النظام السياسي أريد لها أن تكون مبرراً لاستمراريته، فأقحمت البلاد في عشرية دموية راح ضحيتها أكثر من 200 ألف شهيد، وكادت تهدّ أركان الجمهورية. لذا، كانت الأولوية عندنا إنقاذ الجمهورية لا الاستمرار في إضعافها باسم عملية انتخابية مفخخة. استمرت المقاطعة باسم الحفاظ على الوحدة الترابية للبلاد مع أحداث منطقة القبائل الدموية في 2001 وتداعياتها الخطيرة. لقد قتل مواطنون جزائريون برصاص الدرك الوطني، وكان عددهم 127 شهيداً. في سياق مقاطعة مواطنينا في منطقة القبائل للانتخابات، كانت المشاركة تعني عزل جزء من الوطن عن بقية الوطن، وتكريس المنطق الانقسامي الخطير، الذي تعاني منه منطقتنا العربية. حالياً، الجمهورية في مأمن، وهي محل إجماع بعد دحر الإرهاب، بل أصبحت المقاطعة خيار السلطة للحفاظ على غلبتها، بتحييد الأغلبية الرافضة (75 في المئة بين المقاطعة والاقتراع الأبيض) وبتجنيد قواعدها. إن أكبر حزب في الجزائر، وهو حزب «جبهة التحرير الوطني»، أحد أجهزة النظام، لا يملك إلا 5 في المئة من الجسم الانتخابي. المشاركة أصبحت تعني بالنسبة إلينا الأداة الأكثر فعالية لتكريس البديل للنظام الحالي.

ما هي العناصر التي تميز مشروعكم في الرئاسيات عما يطرحه البقية؟
أولاً، سأضع الجزائر على سكة التنمية وبشكل حاسم وسريع، بالتخلص نهائياً من النموذج الاقتصادي الذي وضعنا فيه النظام لمدة أربعين سنة، والقائم على بيع المحروقات واستيراد كل شيء تقريباً. هذا لا يتأتى إلا بوضع حدّ للاستيراد العشوائي، وتوجيه أموال المحروقات إلى الاستثمار لا إلى الاستهلاك. الجزائر في السبعينيات كانت تستثمر 40 في المئة من مداخيلها من العملة الصعبة، وكانت ميزانية تسييرها قائمة على العمل المنتج لا على «ريع المحروقات» كما هي اليوم. سأغير العملة لدمج الاقتصاد الموازي، الذي يشكل 50 في المئة من الاقتصاد الوطني، وهو المسؤول الأول عن العجز في الميزانية، وسأسترجع الأموال المهرّبة إلى الخارج، التي تفوق قيمتها 200 مليار دولار، وسأمنع أي دولة إن لم تسهّل استرجاع هذه الأموال من أن تتاجر مع الجزائر. الجزائر لها الخيرة من أمرها في أمور التجارة الدولية، بحكم التنافس الكبير عليها بين الدول المتقدمة اقتصادياً. سأحول أموال الدعم إلى أجور، وسأوفر أجراً ثانياً للفئات الهشة، يصرف بإذن من الدولة في الأمور الضرورية، أو لاستهلاك المنتج الوطني تجنباً للتضخم. سأضع دستوراً مدنياً يساوي بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الجندرية أو الدينية أو الثقافية، معترفاً بجميع الحقوق الجماعية والفردية. وسأكرس الفصل الحقيقي بين السلطات، مع الحدّ من سلطات رئاسة الجمهورية المبالغ فيها حالياً. سأجعل من العدالة الاجتماعية حقاً دستورياً وفاءً لوعد ثورة نوفمبر.

يبدو واضحاً في الجزائر تراجع قوة اليسار عما كانت عليه في الثمانينيات والتسعينيات. هل يعود ذلك في اعتقادكم إلى غياب قادة كاريزماتيين أو أزمة فكرية أو أزمة مجتمع ككل؟
مشروع الدولة والأمة الجزائرية تأسّس في رحم اليسار عام 1926، مع عمال الجزائر في فرنسا وفق توجيهات الأممية الثالثة. كان نجم شمال أفريقيا فرعاً مغاربياً للحزب الشيوعي الفرنسي، يضمّ الجزائريين وبعض التونسيين والمغاربة، وكان مشروعاً للتحرر الوطني. لقد تطور هذا التنظيم، واستقلّ عن الحزب الشيوعي الفرنسي، بحكم تراجع هذا الأخير عن مسألة أولوية التحرر الوطني، فأنتج هذا التطور حزب الشعب، ثم جبهة التحرير الوطني. إن جبهة التحرير الوطني، سليلة نجم شمال أفريقيا، هي مَن كانت وراء تفجير الثورة وتحقيق الاستقلال الوطني. إن تراجع اليسار في الجزائر سيعني التراجع عن المبادئ المؤسِّسة للوطنية الجزائرية. وهذا ما حدث مع فترة الانفتاح في الثمانينيات، وما تلاها من تغول الإسلام السياسي بتواطؤ من النظام في فترة معينة. إن انحسار تأثير اليسار إذن أنتجه نزوع الدولة إلى اليمين، ووجود شروط دولية مواتية لهذا التيمن، وانقسام داخل العائلة اليسارية حول الموقف من الإسلام السياسي ومن تداعيات سقوط حائط برلين بالأساس. نحن الآن في نهاية مرحلة، لن تقوم لدولنا أي قائمة خارج مشروع البناء الوطني القائم على التنمية والديموقراطية، وهذه هي مهمة اليسار التاريخية.

في حال وصولكم إلى الحكم، ما هي أولوياتكم في السياسة الخارجية؟ وكيف تنظرون إلى علاقة الجزائر مع دول الخليج وإيران؟
سأجعل من الجزائر التي كانت مقبرة الاستعمار ومكة الثوار سابقاً، مكة للديموقراطيين. مكة للديموقراطيين من أجل عالم يواجه فيه الأقل قوة وهم مجتمعون، جبروت الدول الكبرى ورغبتها في اقتسام النفوذ في العالم على حسابنا. عالم ينتصر للضعيف ويتصدى للمعتدي. إن السياسة الدولية التي تُبنى على الاصطفاف في محاور يصنعها الكبار، ويدفع ثمنها الصغار، هي أكبر خطيئة ترتكبها هذه الدول الصغيرة. على الجزائر أن تلعب دورها عربياً وأفريقياً وعالم ــ ثالثياً من أجل صياغة وتجسيد نظام عالمي جديد، يلعب قطبه المستضعف والمتكتل دوراً أساسياً في دمقرطته. بهذه الروح سأتعامل مع الجميع: إيران ودول الخليج، بحكم التحديات المشتركة التي نعيشها. إن حتمية الجغرافيا والتاريخ ستفرض نفسها على قصر نظر المصالح الآنية. العالم بحاجة إلى قطب آخر وازن يحدّ من تغول الكبار. علينا أن نحيي روح باندونغ (مؤتمر 1955) من جديد، وأن نتوقف عن النظر إلى العالم بعيون قومية شوفينية، فيضيع منا الحسّ الجبهوي، ونصبح من خلالها أكثر ضعفاً وهشاشة. إن ما يحدث في سوريا وما حدث في العراق سابقاً لخير دليل على خطورة قصر نظر الدول المتحالفة مع قوى الاستعمار الجديد، والمجاورة لهاتين الدولتين. علينا أن ننهي مرحلة الانقسام لكي لا ينطبق علينا المثل القائل «أُكلت حين أكل الثور الأبيض».