مؤتمر وارسو مثال جديد على مدى تحول السياسة إلى فنٍّ استعراضي. كان الهدف المركزي المعلَن للمؤتمر، عند بدء الإعداد لعقده من قِبَل الإدارة الأميركية، هو مواجهة إيران. لكن رغبة الإدارة في تأمين أوسع مشاركة ممكنة في المؤتمر، وإدراكها جدية الخلافات بينها وبين الأطراف الأوروبية الوازنة، كألمانيا وفرنسا والمفوضية الأوروبية وحتى بريطانيا، حول كيفية مقاربة الملف الإيراني، دفعاها إلى ربطه بهدف آخر وهو «الترويج لمستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط».أتى عزوف تركيا وروسيا عن المشاركة فيه، وإدانة السلطة الفلسطينية له، وضعف مستوى تمثيل الأطراف الأوروبية المذكورة، ليظهر مجدداً عجز الولايات المتحدة عن فرض أجندتها على لاعبين سياسيين معنيين بأبرز القضايا التي يتطرق لها المؤتمر، على رغم أن بعضهم لا يزال حليفاً لها. من الصعب الاقتناع بأن هذه النتيجة لم تكن متوقعة من قِبَل أركان إدارة دونالد ترامب وبقية المشاركين بحماسة في همروجة وارسو. اعتبارات أخرى، سياسية وانتخابية، يغلب عليها البعد الاستعراضي، تشكل الخلفية الفعلية للمؤتمر، وتحتلّ حيزاً أساسياً في حسابات «نجومه» الأميركيين والإسرائيليين وبعض الخليجيين.

ضرورة طمأنة الحلفاء
ليس سراً أن إيران عدو مشترك لجميع أطراف وارسو. لا يفوّت أي منهم فرصة لاتهامها بأنها مصدر كل الشرور في العالم، والتنسيق بينهم ضدها بات معروفاً. لا يحتاج هذا التنسيق العملي، والمستمر منذ فترة غير قصيرة، إلى عقد مؤتمر دولي، خصوصاً بحضور جهات أخرى تطرح مقاربة مختلفة للعلاقة مع طهران، وتعارض بدرجة أو أخرى مقاربة واشنطن ووكلائها. يُعقد المؤتمر في سياق شرق أوسطي من سماته البارزة تزايد مخاوف الوكلاء المحليين للولايات المتحدة، إسرائيل والسعودية أساساً، مما يعنيه الانسحاب المعلن لقواتها من سوريا، وما يؤشر عليه من تراجع نسبي لأولوية الإقليم وشؤونه في جدول أعمالها. احتواء الصين وما يترتب عليه من سياسات وحشد للقوى بات يحتلّ موقع الأولوية الأولى بالنسبة إلى الإدارة الأميركية بدفع من رئيسها، على رغم معارضة تيار قوي في داخلها. تلي هذه الأولوية أيضاً أولوية أخرى وهي استعادة السيطرة على أميركا الوسطى واللاتينية، وهو ما كشفته سلسلة التطورات التي حدثت في البرازيل وفنزويلا، وتحويلها مجدداً إلى حديقة خلفية مغلقة أمام تمدد النفوذ الصيني والروسي.
لا يعني هذا التغير في جدول الأولويات فقدان الشرق الأوسط أهميته الاستراتيجية في نظر واشنطن، لكنه قد يعني، كما قال آموس هاريل كبير المعلّقين في قضايا الأمن والدفاع في «هآرتس»، أن هذه المنطقة ستكون أقل حضوراً على المستوى اليومي، وأن الحلفاء سيضطرون إلى التعامل مع تحديات متصاعدة بدرجة أكبر من الاعتماد على النفس، في بيئة إقليمية متغيرة لغير مصلحتهم. قدرة الولايات المتحدة على التحكم بشؤون العالم متراجعة وبسرعة، وما سمّاه عدد من أهم خبرائها الاستراتيجيين «الغرق» في الشرق الأوسط تم على حساب التصدي لتحديات أخطر وأكبر على موقعها كقوة مهيمنة، كالصعود الصيني وعودة روسيا إلى الساحة الدولية. لم تكن هذه القناعة بعيدة عن إعلان الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، عن سياسة الاستدارة نحو آسيا، ولا حتى عن قراره التوصل إلى اتفاق مع إيران حول ملفها النووي، يكون بمثابة فكّ اشتباك، للتفرغ لمواجهة الصين.
التيار الصقوري في الإدارة الحالية بقيادة جون بولتون يحذر من مغبة قيام إيران، وحتى روسيا وتركيا، بملء الفراغ الناجم عن تراجع الدور الأميركي في الإقليم، ويدفع إلى اعتماد استراتيجية أكثر عدوانية ضد الأولى، تؤدي إلى احتواء نفوذها الإقليمي وإضعاف نظامها وزعزعة استقراره، قبل التفرغ لمناطق أخرى. ليس من المصادفة تكاثر العمليات الإرهابية التي تشنّها مجموعات انفصالية مدعومة أميركياً في إيران، وآخرها عملية وقعت خلال انعقاد مؤتمر وارسو. ستواصل الإدارة سياساتها المعادية لهذا البلد بوسائل وأدوات مختلفة، كالعقوبات الاقتصادية والحصار والضغوط، مراهنة على إمكانية النجاح في إضعاف نظامه، أو حتى التسبب بإسقاطه إن كان ذلك ممكناً. غير أنها مجبرة على مواجهة تحديات أخرى في الآن نفسه. يستدعي هذا الواقع طمأنة الحلفاء المحليين إلى أن أولويات واشنطن الراهنة لا تعني تخلّيها عنهم، وأنها تحرص على بناء جبهة عالمية للدفاع عنهم. ترامب يعي أن قراره الانسحاب من سوريا تسبّب بامتعاض شديد لدى حلفائه الإسرائيليين والسعوديين، الذين أوعزوا إلى جماعات الضغط المرتبطة بهم في أميركا بمهاجمة القرار، وهو لا يريد فقدان دعم اللوبي الصهيوني القوي وأنصار إسرائيل الكثر، لأن هدفه الأول هو تأمين شروط إعادة انتخابه لولاية ثانية. وظيفة مؤتمر وارسو من منظور إدارة ترامب هي التأكيد على أنها لن تتخلى عن التزاماتها تجاه الحلفاء مهما تغيرت الظروف.

التطبيع مع العرب كورقة انتخابية
تحكم الاعتبارات الانتخابية العديد من مواقف وقرارات بنيامين نتنياهو في الآونة الأخيرة. منطق واحد يربط بين إعلانه عن مسؤولية إسرائيل عن مئات الغارات على أهداف في سوريا، والذي أثار غضب أوساط عسكرية صهيونية رأت فيه خرقاً لسياسة الغموض البناء المتبعة حيال هذا الأمر، وإصراره على التطبيع العلني مع قادة ومسؤولين عرب، وهو السعي المحموم لكسب أصوات الإسرائيليين مع اقتراب الانتخابات. فالجهر بوجود علاقات تعاون وتنسيق مع بلدان عربية، على رغم عدم تسوية القضية الفلسطينية، يعزز ـــ من منظور نتنياهو ـــ من صدقية النهج الذي اعتمده طوال فترة حكمه أمام الرأي العام، ويثبت أنه نجح في تحقيق إنجازات كبرى على المستويين السياسي والاستراتيجي بالنسبة إلى إسرائيل، من دون تقديم أي تنازلات تذكر. همروجة وارسو فرصة لتلميع صورة رجل متهم وزوجته بعدة قضايا فساد، كفيلة بأن تقوده مباشرة إلى السجن في حال خسارته الانتخابات.

المذعورون
ممالك الخليج وإماراته قد تكون الأكثر ذعراً من إمكانية تراجع النفوذ الأميركي في الإقليم. هذا هو الدافع الأول لمسارعتها هي الأخرى إلى التطبيع المكشوف مع إسرائيل. العلاقة معها، بالإضافة إلى كونها إذعاناً لطلب من الحليف الأميركي بغية كسب المزيد من رضاه، جزء من عملية تعزيز لشراكات جديدة ضمن سياسة تحوّط استراتيجي لأنظمة تشعر بأن بقاءها مهدد عندما تتراجع الحماية الخارجية. دونالد ترامب كان محقاً عندما أكد مراراً وتكراراً أن النظام السعودي ما كان ليبقى لأيام لولا الحماية الأميركية. همروجة وارسو فرصة للظهور جنباً إلى جنب مع حلفاء أقوياء، يمنح الوقوف معهم شعوراً بالأمن والطمأنينة لعائلات حاكمة مرعوبة من المستقبل. فالمتغيرات العاصفة التي تشهدها المنطقة يصعب التنبؤ بتداعياتها عليهم.