غزة | كان يلامس جدران السجنِ، يخطّ بطبشورٍ صغيرٍ أمل الحرية، يكتبُ «أمّي» وهو يتمنّى أن يقبّل قدميها المتعبتين، يرنو إلى أن يرى تجاعيد الزمان على وجهها الحزين، أو يداعب يديها ويرتمي في حضنها كأوّل يوم أشرقت عليه شمس الدنيا. رحل فارس بعد حكاية ظلم وفقد وإهمال دامت ثماني وعشرين سنة عجافاً، مليئة باقتحام السجون وبالمنع الإسرائيلي من أبسط الحقوق، مثل رؤية الأهلِ. رحل وقد أكلت عليه عقوبات الاحتلال والسلطة الفلسطينية وشربت معاً ليضاف الهمّ إلى الهمّ، وتزداد المعاناة... إلى أن ودّع الدنيا مريضاً.
الحكم بمؤبّد
في الثالث والعشرين من آذار/ مارس 1991، طرقت بنادق العدو الإسرائيلي أبواب منزل الفلسطيني فارس أحمد بارود، في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، وكان يبلغ من العمر آنذاك 23، لتُردِيَه أسيراً في الزنازين. حكمت محاكم العدو عليه بالسجن المؤبّد بتهمة قتل مستوطن، ليتنقل خلال الأعوام الـ28 بين السجون الإسرائيلية كافة، مشاركاً في الاحتجاجات والإضرابات التي خاضها الأسرى الفلسطينيون.
ارتقى بارود بعد 28 عاماً مُنع خلالها من رؤية والدته مراراً


علت الابتسامة وجهَ بارود أواخر 2013، بعدما تعهّد العدو إطلاق سراحه هو وتسعة وعشرين آخرين ضمن الدفعة الرابعة خلال صفقة «إحياء المفاوضات»، لكن السجّان تراجع بدعوى «أسباب سياسية»، فتبدّدت الفرحة وعاد الحزن إلى جدران الزنازين.

كانت 2003 فرصة للخروج من الأسر لولا التراجع الإسرائيلي عن الدفعة الرابعة

خلال قضاء فارس حكمه، توفيت والدته في أيار/مايو 2005، عن عمر يناهز خمساً وثمانين سنة بعد صراع مع المرض وفقدها بصرها من كثرة البكاء كما قالت، وقد تمنّت أن تحتضن ابنها قبل أن ترحل إلى السماء. هذه الأم شاركت في كل الفعاليات أمام «الصليب الأحمر» في غزة، رافعة صورة ابنها، على أمل أن تراه بعينيها المتعبتين من دون أن تحقق أمنيتها.

رحلة المرض
كان الشهيد بارود يقبع مع آلاف الأسرى في سجون فيها من كل الأخطار: حرُّ الصيف وبرد الشتاء، وسوء التغذية، وانعدام أبسط أنواع الحقوق كالمتابعة الصحية، وحرمان التعليم، إضافة إلى فقدان الأغطية خلال البرد القارس. تعب السجون لا يضاهيه تعب، فخلال أسره تعرّض لحالات مرضية متعددة إضافة إلى سوء وضعه النفسي، كما خضع لاستئصال جزء من الكبد وقد بلغ خمسين عاماً، نتيجة الإهمال الطبي المتعمّد، نهاية العام الماضي.
وعلى إثر تدهور وضعه الصحي، نقلته إدارة السجون من «ريمون» إلى مستشفى «سيروكا» الإسرائيلي، وقد استشهد هناك، لينال الحرية، ويلتقي والدته، بعد إنهاك الروح وتخاذل المسؤولين وضعف التضامن. هكذا، ينضم فارس إلى 217 شهيداً من الحركة الفلسطينية الأسيرة، بينهم 63 فارقوا الحياة نتيجة الإهمال الطبي.
وبمجرد أن انتشر الخبر، انتفض الأسرى وأغلقوا معتقلَي «نفحة» و«ريمون»، مهددين بالتصعيد. أما السلطة الفلسطينية، فبدلاً من أن تكون عوناً للأسرى، تساندُهم برفع معنوياتهم بمساندة أسرهم ورعايتهم، وتوفير الدعم الإعلامي اللازم لهم، أو الضغط على الاحتلال من أجل الإفراج عنهم، فإنها زادت الطين بلة بقطعها رواتب مئات الأسرى قبل يومين، ومنهم الشهيد بارود.