كباش إسرائيل وحركة «حماس» في قطاع غزة يحمل تعقيدات ومعاني وتداعيات قد تكون مغايرة لكلّ ما شهده القطاع وصراعه في السابق مع العدو. كباشٌ تتداخل فيه التهديدات الموضعية في غزة مع التهديدات الإقليمية، وكذلك الصراع على هوية الفصائل الفلسطينية تبعاً للحرب الإقليمية المستمرّة في أكثر من ساحة، إضافة إلى الخلاف الداخلي بين السلطة و«حماس» تحديداً، الذي يزيد تعقيدات المشهد الغزّي، فيما تُعدّ الانتخابات الإسرائيلية دافعاً رئيساً لصاحب القرار في تل أبيب، نحو اتخاذ مواقف واعتماد إجراءات أكثر تطرّفاً ضمن التراكض وراء الناخبين، مع انزياح الشارع الإسرائيلي أكثر إلى اليمينية.هذا «الخليط» من العوامل يجعل من الوضع الميداني في غزة سيّالاً جداً، وإن كان يتحرك ما بين الهدوء الكامل والتصعيد الكامل، من دون أن يدرك الهدوء أو التصعيد أو الاستقرار على صيغة ميدانية ثابتة بينهما. نتيجةٌ باتت واضحة، على رغم كل الجهود المبذولة إسرائيلياً للتهدئة، عبر إشراك الجانب المصري والقطري بمباركة إسرائيلية - أميركية للتوصل إلى تهدئة مقبولة، مؤقّتة وهشة، لكنها لازمة وضرورية للتفرّغ لجبهات أخرى (الشمال: سوريا ولبنان وإيران) تُعدّ إسرائيلياً أكثر أولوية، مع منسوب تهديد مرتفع جداً وقابل للتعاظم، وبأشواط مما هو عليه التهديد في القطاع.
كلا الجانبين، إسرائيل و«حماس» (بمعية فصائل المقاومة الأخرى اضطراراً)، يسعى إلى فرض إرادته السياسية على الآخر، مع الإدراك مسبقاً أن الآخر لا يريد ولا يسعى إلى المواجهة الشاملة. الفرضية صحيحة من جهة إسرائيل، كما هي صحيحة من جهة «حماس»، وعلى هذه الخلفية وهذا الإدراك يُقْدم الطرفان على أفعال وسياسات أقلّ ما يقال فيها أنها مدعاة للتعجب. فمن ناحية إسرائيل، الواضح أن قرار الامتناع عن المواجهة مُتّخذ وثابت على طاولة القرار؛ ليس لأن إرادة الحرب غير موجودة فحسب، وهي كذلك، بل لأن المؤسسة الأمنية تريد التركيز على التهديد الشمالي، المقبل بطبيعته وتعقيداته على تحدٍّ ميداني قد يلامس المواجهة الشاملة مع أكثر من طرف شمالاً، وذلك في ظلّ الإصرار الإسرائيلي على مواصلة الاعتداءات في سوريا، مقابل إصرار الدولة السورية وحلفائها على مواصلة استعداداتهم العسكرية لمواجهة واقع وتحدّيات ما بعد الحرب السورية.
استطاعت تل أبيب بمعية القاهرة والدوحة شراء الهدوء في غزة


في سياق هذا التوجّه، تعمل إسرائيل، قولاً بالتهديدات وفعلاً باستعراض القوة، على منع التصعيد مع القطاع. وانطلاقاً من ذلك، يمكن تفسير استعراض إسرائيل قوتها، وتظهير جاهزية وحداتها، وتعزيزها على طول الحدود مع غزة، مع التشديد على بيانات وتقارير مصوّرة ولافتة جداً في دلالاتها عن نشر منظومات «القبة الحديدية» في أكثر من مكان جنوباً، وصولاً إلى تل أبيب نفسها، أو استدعاء احتياط لتشغيل هذه المنظومات (وهو أمر طبيعي جداً). الهدف الإسرائيلي من كلّ هذا الاستعراض واضح ولا جدال فيه: منع «حماس» وردع أفعالها التي يمكن أن تلجأ إليها، في ظلّ طلب بات ملحّاً لدى الحركة لتحسين ثمن التهدئة التي أقدمت عليها، بعدما قرّرت تل أبيب تقليص شروط «المنحة القطرية» وتغييرها، وهي التي تصل إلى الحركة عبر إسرائيل وبموافقتها ومباركتها.
الواضح أن تل أبيب استطاعت، بمعية القاهرة والدوحة ومباركة واشنطن، شراء الهدوء في غزة بالمال القطري، الذي وصلت منه دفعتان حتى الآن، واستعصت الدفعة الثالثة للشروط والشروط المضادة. شراءٌ جاء تلبية لتوصيات صدرت عن المؤسسة الأمنية في إسرائيل، ويهدف إلى منع التصعيد غير المجدي، مع شروط شكلية أقلّ ما يقال فيها أنها مهينة. رضى حماس عن هذا الشراء كان مدعاة تعجّب، وإن كانت أسبابه مفهومة. نعم، يرافق هذا الشراءَ إضرار بالردع الإسرائيلي قبالة غزة، مع الكثير من الاعتراضات والمزايدات داخل تل أبيب نفسها على خلفية الانتخابات المقبلة للكنيست، والسعي إلى التمظهر أكثر بين المتنافسين على صورة التطرّف واليمينية ضد الفلسطينيين، لكن من جهة إسرائيل، وصاحب القرار فيها، التهدئة ضرورية وملحّة للتفرّغ للخطر في الشمال.
المزايدات الداخلية في إسرائيل استُتبعت بفرض شروط إضافية على المنحة القطرية، وظهّرت أكثر ما بات يمكن وصفه بالإذلال، على رغم أن «حماس» رفضت الشروط الجديدة: شطب عدد كبير من أسماء قوائم القبض في غزة لأشخاص تقول إسرائيل إنهم «إرهابيون»، اقتطاع جزء من المال ليُصرَف في عناوين أخرى غير الرواتب، وتحديداً في ما يتعلق بتمويل مؤسسات إغاثية في القطاع. بالطبع، رفضت الحركة المطالب الإسرائيلية، وواجهت تل أبيب بمطالب مضادة: إيصال الأموال عبر الأمم المتحدة أو الجانب المصري وليس عبر إسرائيل، جرّاء الانتقادات في الشارع الغزي لـ«مقاومة تتلقّى أموالاً من الاحتلال» ثمناً للامتناع عن الرد، ورفض أي تقليص للوائح الرواتب مهما كانت الأسباب، وترك مسألة التصرف بالأموال كما ترَِد، مع زيادتها للحركة ومؤسسات السلطة المشرفة عليها.
إلى أين يمكن أن يؤدي هذا الكباش؟ في الحدّ الأدنى، سيتراجع الطرفان مع التوصّل إلى تسوية ما تعيد تدفق المال القطري واستئناف شراء التهدئة، وفي الحدّ الأقصى، مواجهة محدودة في صورة أيام قتالية غير منفلتة، ولا توصل إلى المواجهة الشاملة، وفي أعقابها التوصّل أيضاً إلى تسوية ما تعيد تدفّق المال القطري واستئناف شراء التهدئة. قد يكون التوصيف، كما ورد هنا، مزعجاً للبعض، لكنه توصيف واقع معيش لا لبس فيه، وصلت إليه الأمور في غزة. هل هو نجاح إسرائيلي بغضّ النظر عن النجاح التكتيكي في تحصيل أموال قطرية برضى الاحتلال، أم أنه نتيجة و/أو تراكم نتائج سياسات غير صائبة في الرهان على غير ما يمكن الرهان عليه لإسناد المقاومة ودعمها؟
في المحصلة، من جهة إسرائيل، وهو ما يجب أن تدركه «حماس» جيداً، وهو معروف لديها بطبيعة الحال، البوصلة الإسرائيلية شمالية بامتياز لمواجهة مركّبات التهديد وتعقيداته. ضرورة التركيز على الشمال تدفع إسرائيل إلى تقليص الانشغال غير الاضطراري في ساحات أخرى، وفي المقدّمة غزة. على ذلك، قد يكون الأوان قد آن بعد تراجع إسرائيل عن بنود «عقد بيع» التهدئة بأموال قطرية وطلب تعديله، للبحث عن بدائل غير «عقود البيع»، على أن تكون أكثر جدوى للشعب الفلسطيني.