إسرائيل معنية بأن تؤكد باستمرار حيوية «دورها الوظيفي» في الاستراتيجية الأميركية الإقليمية والدولية المعلنة. هذا التأكيد من بين الأهداف الرئيسة لعملية القصف الإسرائيلي لأهداف على الأرض السورية. لا شك في أن الهدف الرئيس الآخر، الذي عادة ما يكرره المسؤولون الإسرائيليون، هو التصدي لعملية بناء القدرات الصاروخية وتطويرها، التي شرعت بها إيران وحزب الله في سوريا، والتي تحوّل هذا البلد تدريجاً، إذا ما صدقت الاتهامات الصهيونية، إلى منصة هجومية ضد إسرائيل. وكان رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، قد صرّح الأسبوع الماضي بأن جيشه شنّ مئات الغارات على أهداف لإيران وحزب الله في سوريا، بينما تحدث وزير دفاعه المنتهية ولايته، غادي أيزنكوت، عن مهاجمة آلاف الأهداف، وأكد أن «على إسرائيل أن تركز جهودها على محاربة عدوها الرئيس إيران». لكن البعد السياسي لهذه الغارات يكتسب أهمية خاصة مع قرب انعقاد قمة وارسو حول «مستقبل السلام والأمن» في الشرق الأوسط، التي يفترض أن تمهّد لقيام «حلف وارسو» جديد، لكن بقيادة الولايات المتحدة هذه المرة ولمواجهة إيران. وتنبع أهميته أيضاً من أن الغارات تأتي بعد قرار الرئيس الأميركي بسحب قواته من سوريا، إذ تحاول إسرائيل معاودة تقديم نفسها باعتبارها الذراع الضاربة لحلف وارسو الجديد ضد إيران في الإقليم.التحالف العضوي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والدعم غير المحدود وغير المشروط، الذي تحظى به الأخيرة من إدارة ترامب لا تبدد مخاوفها من إمكانية تغير هذه الحال في المستقبل. لقد أظهر الفيلم الوثائقي الذي أعدته قناة «الجزيرة» ولم تعرضه، والموجود على موقع «الأخبار»، عن عمل اللوبي الإسرائيلي في أميركا، درجة الهستيريا التي انتابت المسؤولين الإسرائيليين نتيجة النجاحات التي حققتها حركة المقاطعة. أنشأت الحكومة الصهيونية وزارة الشؤون الاستراتيجية للدفاع عن صورة إسرائيل وسمعتها في مواجهة منتقديها. ما ينبغي الالتفات إليه هو المقاربة الجديدة المعتمدة للدفاع عن إسرائيل، التي تقطع مع الخطاب الدفاعي الصهيوني التقليدي الذي كان معتمداً في الغرب في العقود الماضية. لم تعد إسرائيل تقدم على أنها «واحة الديمقراطية بين صحراء الديكتاتوريات» أو «نموذج للحداثة في محيط متخلف». هذه الحجج لا تنطلي على أحد بعد ثورة المعلومات وانكشاف هول الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي.
لذلك، تستند المقاربة الجديدة إلى ركيزتين: الأولى تلطيخ سمعة من يهاجم إسرائيل، والثانية أنها حليف يعتمد عليه في مواجهة أعداء مشتركين. ما تخشاه النخبة الصهيونية هو الانعكاسات السلبية للهزائم والانتكاسات التي مُني بها جيشها منذ حرب 2006 على صدقيتها كعصا غليظة في يد الولايات المتحدة في الإقليم. لم تنجح الحروب الثلاث التي شنت من بعدها على غزة في استعادة الجيش الصهيوني لهيبته وسمعته بنظر العسكرية الأميركية والغربية. لم تكن مصادفة أن يصدر المقال الذي تحول كتاباً، لجون ميرشايمر وستيفن والت، عن اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية بعد حرب 2006. لقد انتهز الرجلان فرصة هزيمة إسرائيل فيها ليعبّرا عن قناعة قطاع يتسع تدريجاً في الرأي العام الأميركي وبين النخب بأن الدعم غير المشروط لإسرائيل يتناقض والمصالح الاستراتيجية لبلادهم. وما يزيد من مخاوف النخبة الصهيونية هو التحول الذي يطرأ على طبيعة التحالفات في عالم اليوم حيث يتراجع ثباتها وحصريتها.
العلاقات مع إدارة ترامب ممتازة اليوم، لكنها قد تشهد تغييرات غير متوقعة في مستقبل من المحتمل أن يكون قريباً. هذا ما يشير إليه كبير محللي الشؤون العسكرية والدفاعية في «هآرتس»، أموس هاريل، عندما يعتبر في مقابلة مع موقعها الإلكتروني أن إدارة ترامب «أغرب إدارة تعاملت معها إسرائيل على الإطلاق. نتنياهو لا يستطيع قول ذلك علناً... ترامب سيسمح بدعم إسرائيل إن وقع أمر فظيع. ولكن على مستوى التعامل مع المتغيرات اليومية في البيئة الإقليمية، نتنياهو يفهم أنه أكثر وحدة من السابق». اتجاه الرئيس الأميركي إلى التركيز على أولوية التناقض مع الصين وللتقليل من أهمية الشرق الأوسط، ومزاجيته الحادة وميله لتغليب المنطق المركنتيلي عند تفكيره في السياسة الخارجية، قد تدفعه يوماً، كما سبق للمؤرخ الأميركي سيت أنزيسكا، أن قال لـ«الأخبار» في مقابلة سابقة، إلى اعتبار المساعدة الأميركية السنوية لإسرائيل كبيرة جداً مقارنةً بالأرباح التي تجنيها منها أميركا. لا يعني هذا الكلام أننا سنشهد قريباً انهياراً للتحالف الأميركي ــ الإسرائيلي، لكن من المحتمل أن نشهد بداية تباعد نتيجة تركيز الولايات المتحدة على أولويات أخرى. إسرائيل ستسعى بقدر ما تستطيع أن تظهر أنها حاجة استراتيجية لواشنطن وأنها الحليف الأوثق في هذه المنطقة والمستعد للانقياد خلفها في سياساتها، خاصة إذا تعلق الأمر بمواجهة طهران. لقد تأسس التحالف الفرنسي ــ الإسرائيلي في خمسينيات القرن الماضي على قاعدة أن إسرائيل تستطيع مواجهة مصر الناصرية المسؤولة، برأي فرنسا، عن صعود حركة التحرر الوطني في المغرب العربي الذي كان خاضعاً لسيطرتها. وتأسس تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة خلال ستينيات القرن الماضي مع بداية حرب اليمن التي تدخل فيها الجيش المصري مقترباً من منابع النفط في الخليج. أرادت الولايات المتحدة المتورطة في حرب فيتنام آنذاك حليفاً يردع مصر، فتقدمت إسرائيل الصفوف. أكثر ما تخشاه النخبة الصهيونية اليوم، انسحاب أميركي من المنطقة قبل مواجهة حاسمة مع إيران تؤدي إلى تحجيم دورها ونفوذها، وهي مدركة أن التيار الرئيسي في الإدارة يشاطرها موقفها. عمليات القصف في سوريا هي لدعم موقف هذا التيار الذي يريد تصعيد المعركة ضد طهران قبل هذا الانسحاب.