يدخل الرجل إلى المقهى بعد انقطاع طويل بسبب المرض. كان قد مُنع عن التدخين ومخالطة المدخّنين. وكرمى لعينيه، واحتراماً له، يتوقف الجميع عن التدخين طوال فترة وجوده. هذه ليست لقطة من فيلم أوروبي، ولا حكاية مُتخيّلة. حدث هذا فعلاً في اللاذقية قبل سنوات، ولا بدّ أنّ معظم روّاد مقهى «قصيدة نثر» يتذكرون جيداً ردّة فعل توفيق دبانة الذي كاد يبكي يومها لشدّة انفعاله.قبل أيّام، سرت «في اللاذقية ضجة»، لكنها ليست الضجة التي تكلم عنها أبو العلاء المعري قبل قرون. هي أصداء الخبر الموجع الذي استفاق عليه أبناء المدينة ليقرأوا في أوراق النعي المنتشرة على الجدران ومواقع التواصل الاجتماعي اسم المربّي الفاضل «توفيق صدّيق دبّانة». مثل غيرهم من السوريين، اختلف أبناء اللاذقية حول كلّ شيء تقريباً في السنوات الأخيرة، لكنهم لم يختلفوا على توفيق دبانة. كان الرجل موضع إجماع لافت، وأعطى من خلال سلوكه الراقي وفكره الحضاري صورة للمثقّف اليساري النظيف والأصيل، ليصبح ملجأً للكثير من أصدقائه الشباب، وسط هذا الخراب الذي حلّ بنا وبهذه البلاد.
كنتُ أراه في المقهى ينوس بحركته البطيئة بين الطاولات والكراسي، محتضناً هذا، مربّتاً كتف ذاك. ينصتُ باهتمام إلى مشاكل الآخرين ويحزن لحزنهم حتّى تظنّه صاحب المصاب. لم يحصل أن رأيته مرّةً جالساً وحده. فللأستاذ توفيق أصدقاء ومعارف كثر. هو أستاذ الرياضيات الأشهر في المدينة. وهو الإنسان اللطيف، الودود الذي لم تستطع الأرقام والمعادلات الجافّة إبعاده عن بلاغة النظرات ورهافة الحس وهمسات الحب وكلّ ما يبث الفرح والسعادة في قلوب النّاس.
بصوته المبحوح ونظرات الفرح في عينيه، كان يقابل النّاس. والغريب أنّ صوته هذا كان بالنسبة إلى الكثيرين أقوى وأبقى أثراً من صوت الرصاص الذي يلعلع في جنبات المدينة. لقد حفر عميقاً في وجدانهم وأعاد لهم الأمل بالمستقبل، باعتبار أن «الإنسان هو ابن الزمن، وليس ابن التراب»، كما قال لي يوماً عندما كنّا ندردش ونشرب القهوة ونضحك ساخرين من مفاصلنا التي صارت «تزقزق كفراخ الدوري» كما عبّرتُ أنا يومها. أو كما قال هو ضاحكاً: «كفراخ الغراب».
رحل توفيق دبانة. لكن صدى صوته اللطيف سيتردد طويلاً في جنبات المقهى الذي كان يرتاده، وبين جدران القاعات التي كان يدرّس فيها، وفي بيوت محبيه، وذاكرة أصدقائه وطلّابه المخلصين. ربما بات تعبير «إنسان حقيقي» مبتذلاً لكثرة ما تم استخدامه، لكنني خلال اليومين الماضيين سمعتُ هذا الوصف أثناء الحديث عن «الأستاذ توفيق» أكثر مما سمعته طوال حياتي كلّها. وكأنّ النّاس بتكرارهم هذا التوصيف قد نظّفوه وصقلوه ولمّعوه حتّى صار يليق فعلاً بـ«الإنسان الحقيقي» والصديق: توفيق صدّيق دبّانة.