تونس | منذ أشهر، توترت العلاقة بين حركة «النهضة» ورئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي، لكن هذا الأسبوع كان استثنائياً، إذ شهد انتقال العلاقة بينهما من القطيعة السياسية إلى العداوة. نقطة انطلاق هذا التحوّل كانت استقبال السبسي وفداً عن «هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي»، التي تعتبر أن لـ«النهضة» جهازاً «سرياً» أمنياً واستخبارياً، ما فتح باب المناكفة بين الحليفين السابقين.حتى وقت قريب، كان كل شيء يبدو قابلاً للإصلاح بين حركة «النهضة» ورئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، لكن الأمر، منذ منح الثقة البرلمانية للوزراء الجدد في حكومة يوسف الشاهد، منتصف هذا الشهر، لم يعد كذلك. فشل قائد السبسي في إرجاع «النهضة» إلى جادة التوافق معه، بعدما اختارت دعم رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، حليفها الجديد، الذي قد تستمر علاقتها به حتى بعد تشكيله مشروعه السياسي الجديد، الذي من المتوقع أن يرى النور في ظرف أشهر، وبعد الانتخابات المبرمجة نهاية العام المقبل.
لا يرمي قائد السبسي المنديل بسهولة، ذلك ما ترويه سيرته السياسية، التي تمتد على مدى أكثر من ستة عقود. ما زال أمام الرجل مهمة أخيرة: توريث سلطته ومشروعه السياسي إلى نجله، حافظ، أو ترشيح نفسه في حال تعذر ذلك، إن سمحت له ظروفه الصحية طبعاً (احتفل أول من أمس بذكرى مولده الـ 92). قرّر شيخ قرطاج التفاعل مع «النهضة» بنفس الطريقة التي انتهجها قبل الانتخابات الأخيرة، أي إثارة أكثر ما يمكن من ملفات تُبرز الحركة كما لو أنها «رجعيّة» و«غير مدنية»، ومن ثم تصوير نفسه كنقيض لها.
الإثنين الماضي، استقبل السبسي وفداً عن «هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي»، وتلقّى منه «مجلداً من الوثائق المهمة»، حسب تعبيره، حول «الجهاز السري لحركة النهضة»، الذي «تكشّف» بعض مراجعته ملف السجين مصطفى خضر. وسمح الرئيس لأعضاء الوفد بإلقاء كلمة بعد انتهاء المقابلة، تم نشرها على صفحة رئاسة الجمهورية في «فيسبوك» (وهو إجراء يأتي بأمر من الرئيس مباشرة، كما أوضح مستشاره السياسي نور الدين بن تيشه، في لقاء تلفزيوني قبل أيام).
ألقى قائد السبسي صنارته وطفق ينتظر. جاء الصيد سريعاً، حيث أجابت «النهضة» على ما حدث ببيان عبّرت فيه عن «استغرابها من نشر الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية اتهامات صادرة عن بعض الأطراف السياسيين، بنية الإساءة لطرف سياسي آخر، عبر توجيه اتهامات كاذبة ومختلقة»، واعتبرت الأمر «سابقة خطيرة تتعارض مع حيادية المرفق الرسمي». لم يقف البيان عند ذلك الحد، بل نبّه إلى «خطورة إقحام مؤسسة الرئاسة بأساليب ملتوية، بنيّة ضرب استقلالية القضاء، وإقحامه في التجاذبات السياسية»، مشدداً على حرص الحركة على «الشراكة والتوافق مع مختلف القوى السياسية والاجتماعية في البلاد، وفي مقدمتها السيد رئيس الجمهورية».
قرّر السبسي التفاعل مع «النهضة» بالطريقة نفسها التي انتهجها قبل الانتخابات الأخيرة


التقط الرئيس هذا البيان، واستحضره في اجتماع «مجلس الأمن القومي»، أول من أمس، الذي طرح على طاولته المعطيات التي أوردتها «هيئة الدفاع عن الشهيدين». تساءل الرجل: «ما هو السر في الأمر؟ المسألة مفضوحة وقد تحدث العالم كله عن الجهاز السري، الذي لم يعد الآن سرياً»، مضيفاً أن «كلام الوفد معقول»، إلا أن ذلك «أثار حساسية النهضة»، التي «أصدرت بياناً يتضمن تهديداً لي، وأنا لا أسمح بذلك»، منهياً كلامه بالقول «إذا خلا لك الجوّ، فبيضي وفرخي، لكن معي هي الأمور لا تمر».
رداً على ذلك، أصدرت «النهضة» بياناً ثانياً، أمس، دعت فيه القوى السياسية والاجتماعية إلى «الانتباه للمخاطر التي تهدد المسار الانتقالي، نتيجة ارتفاع درجة المناكفات السياسية، وتغليب المصالح الحزبية الضيقة والآنية». وأكدت مرة أخرى «ضرورة الحفاظ على حيادية مؤسسات الجمهورية عن التجاذبات الحزبية والسياسية والانتخابية».

أين اليسار؟
جزء كبير من الظروف التي أدت إلى صعود الباجي قائد السبسي إلى رئاسة الجمهورية، خلقها اليسار. استغل الرجل اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي، القياديّين في «الجبهة الشعبية»، التحالف السياسي الأوسع في البلاد، لتشكيل «جبهة الإنقاذ» التي جمعتهما، ما أسبغ عليه شرعية كان يفتقدها باعتبار توليه مسؤوليات لا في نظام بورقيبة فقط، بل كذلك في نظام بن علي.
علاوة على ذلك، اتخذت «الجبهة الشعبية» موقفاً غريباً في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، إذ دعت إلى «قطع الطريق» على منصف المرزوقي، الذي اعتبرته «مرشح حركة النهضة»، لكنها لم تدعم صراحة قائد السبسي، مع أن هذا الدور يحوي مرشّحيْن فقط!
هذه المرّة أيضاً، يعمل قائد السبسي مرة أخرى على الاستفادة من قضايا اليسار؛ فملفّ «التنظيم السريّ» أُثير في الأصل أثناء البحث في قضية الاغتيالين، و«هيئة الدفاع عن الشهيدين» مشكلة من «الجبهة الشعبية». استشعر حمة الهمامي، الناطق باسم «الجبهة» ذلك، حين قال في حوار إذاعي، أمس، إن اللجوء إلى رئاسة الجمهورية جاء فقط من أجل «التحسيس والدفع نحو تحمّل كل مؤسسة مسؤوليتها». وأضاف الهمامي أنه يعرف بتوظيف الملف قائلاً: «نحن نعي جيداً أن السبسي سيستعمل كل أسلحته في معركته السياسية، ومتيقظون لاستغلال الملف، لأننا نعرف الرجل وأسلوبه وتاريخه»، إذ «يظهر الملف وقت اختلافهما، ويختفي عندما يتصالحان»، منهياً حديثه بالتأكيد أنه لا يثق «بقائد السبسي سياسياً».
تصريح الهمامي مهم، لأنّه يعكس وعياً بتوظيف الملف، لكنه لا يغير شيئاً في واقع الحال. بدأ قائد السبسي بسحب الأضواء من «الجبهة الشعبيّة»، ووضع يده على الملف، مستغلاً سلطته والمؤسسات التي يشرف عليها، جاعلاً منه موضوعاً آخر في صراعه الانتخابي القادم ضد حركة «النهضة»، تضاف إليه ملفات أخرى مثل «المساواة في الإرث»، الذي أقرّه مجلس وزاري قبل أيام، ويُجهّز لطرحه على البرلمان، ليناقشه على أعتاب الانتخابات، أملاً في إعادة إنتاج الانشطار الهوياتي القديم، الذي يرتكز على ثنائيات من قبيل «حداثيّين» و«رجعيّين»، تُزيّف الصراع وتحافظ على هيمنة القوى نفسها، اقتصادياً وسياسياً.