اللافت في تلك الجولة هو حجم المشاريع «التنموية» التي أُعلن عنها، والتي بلغت قيمتها في القصيم أكثر من 16 مليار ريال، وفي حائل 7 مليارات، في وقت تمّ فيه التوجيه بإعفاء السجناء المعسرين (غير القادرين على سداد ديونهم). توجيهات يُقرأ فيها سعي السلطات إلى حيازة رضى رعاياها في هذا التوقيت الحرج، الذي يمكن أن تتكاثر فيه منافذ «التمرد»، وهو ما كان قد بدأ أواخر الشهر الماضي مع الإعلان عن إعادة صرف العلاوة السنوية لموظفي الدولة اعتباراً من مطلع العام المقبل. هذه المشهدية استكملها ابن سلمان بسلسلة خطوات تبدو بعيدة عن مقتضيات «رؤيته» ومعالم شخصيته. قبل أيام، ودونما مناسبة، أصدر ولي العهد توجيهات «عاجلة» بترميم وتأهيل 130 مسجداً تاريخياً في المملكة، بتكلفة هي الأكبر منذ انطلاق برنامج إعمار المساجد التاريخية عام 1997. وبالتوازي مع ذلك، كثّف ابن سلمان من لقاءاته العامة، وخصوصاً مع الشرائح التي يمكن أن يحدث الاحتكاك بها صدىً إعلامياً، كأقارب قتلى القوات الأمنية والعسكرية السعودية، والذين اجتمع بهم الثلاثاء الماضي، مُلقِياً فيهم خطاباً عاطفياً غلبت عليه عبارات التضامن واللُّحمة، كقوله: «نحن في الواقع جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى».
سُجّلت لابن سلمان أخيراً خطوات بعيدة عن مقتضيات «رؤيته» ومعالم شخصيته
كلها مواقف وقرارات تعيد إلى الأذهان ما أقدم عليه سعود لدى اشتداد التنازع على السلطة بينه وبين فيصل. لم يتأخّر الابن الثاني لعبد العزيز في الاشتغال على استمالة القبائل والمؤسسة الدينية. بدءاً من توزيع «المكرمات» على مشايخ البدو وصرف مساعدات للفقراء والمرضى، مروراً بتعمير المساجد والمشاركة في غسل الكعبة، وصولاً إلى شقّ الطرق وتمديد أنابيب المياه... حاول سعود بشتّى السبل تعزيز موقعه بوجه أخيه، مستعيناً عليه أيضاً بِمَن عُرفوا بـ«الأمراء الإصلاحيين» الذين وعدهم بإصلاحات لم تجد طريقها إلى التنفيذ. كان سعود، حينذاك، قد بلغ مبلغاً من الضعف، بعدما منحت سياساته، فيصل، فرصة الانقضاض عليه، وخصوصاً أن البلاد دخلت في عهده أزمة مالية واضطرابات جراء التبذير، وانخفاض عوائد النفط، واندلاع الاحتجاجات العمالية في المنطقة الشرقية. لعلّ هذا الضعف هو ما يجمع بينه وبين ابن سلمان، الذي يجد نفسه مضطراً إلى التراجع والمداهنة وطأطأة الرأس، لكن الفارق أن من «يرشد» الأمير الشاب اليوم هو والده الذي تبدو تكتيكاته ــــ إلى الآن ــــ مدروسة ومحسوبة، خلافاً لسعود الذي كان يضرب خبط عشواء. كما أن منافسي ولي العهد الحالي ليسوا بالقوة نفسها التي حازها فيصل، بعدما تولّى ولاية العهد ونيابة رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الخارجية دفعة واحدة، عمل على أثرها على استقطاب مناوئي أخيه وتحشيدهم في وجهه.
بناءً على ما تقدم، يظلّ ما يدور في السعودية اليوم محصوراً في دائرة تحصين البيت الداخلي، منعاً لـ«خراب الهيكل» برمّته. لكن الاستراتيجية «الدفاعية» التي يقودها الملك تنطوي على مخاطر تتهدّد مشروع «السلمنة» الذي تمّ الاشتغال عليه منذ سنوات. لا يستطيع سلمان في الظرف الحالي الإقدام على توريث نجله العرش ما لم يمنح المنافسين «جوائز ترضية»، الأمر الذي من شأنه تزكية عوامل الصراع، على اعتبار أن هؤلاء ستصبح في أيديهم أوراق قوة تمكنهم المحاربة بها. أما إذا آثر الانتظار، فإن ابن سلمان قد يفيق يوماً ولا يجد المُلك في يده، ولا المَلك إلى جانبه، وعندها قد تكون السعودية أمام نسخة جديدة من صراع سعود ــــ فيصل، لن تكون بعيدة عن التأثيرات الخارجية، وخصوصاً أن التجارب ــــ في الحالة السعودية ــــ تثبت أن الرعاة الغربيين لا يتردّدون في نفض أيديهم في «اللحظة المناسبة».