تنتهي جولة التصعيد الأخيرة في قطاع غزة بلا تأسيسات فعلية من شأنها منع ما يمكن أن يعقبها من جولات، يبدو أن رجحانها مرتفع جداً، مع أو من دون رغبة الطرفين في الوصول إليها. مع ذلك، توقف التصعيد ضمن معادلة «الهدوء مقابل الهدوء»، لا يمنع أو يقلّص مفاعيل صورة الانتصار الفلسطينية على الوعي، كما خرج به واقع تبادل الضربات في اليومين الماضيين، وهي صورة سيئة من ناحية تل أبيب وستلاحق المسؤولين الإسرائيليين لغاية تبادل الضربات المقبلة، ما لم يقطع هذا التقدير متغيّرات، من شأنها التأسيس لهدوء طويل الأمد، ما زالت مقدماته مستعصية على الوسطاء.نتيجة جولة التصعيد كما انتهت عليها أمس، متشعبة باتجاهين أساسيين: صورة انتصار فلسطينية بنسبة عالية جداً مقابل صورة انكسار إسرائيلي واضحة. وهي صورة، غير محصورة فقط بالمنظور الفلسطيني، بل أيضاً وبشكل أساسي، لدى الجانب الإسرائيلي وجمهوره، الذي تلقى تذكيراً مع قيادته حول ما كان يمكن، وكذلك ما يمكن لاحقاً، في حال تطورت المواجهة واتسعت دائرتها.
في الاتجاه الثاني، وهو الأكثر تأثيراً وحضوراً لدى تل أبيب، تراجع صدقية إسرائيل وقابليتها لدى أعدائها، إن عاودت وهددت باستخدام الخيارات العسكرية مقابل قطاع غزة، مع حضور محدودية الإرادة لديها على الذهاب بعيداً في المواجهة، حتى وإن عمدت فعلياًَ إلى مباشرتها.
مما تشكّل من معطيات ووقائع نتيجة التصعيد من شأنها التأثير في المشهد الفلسطيني الغزي للمرحلة المقبلة، من المفيد الإشارة إلى الآتي: تعد هذه الجولة، الأعنف والأكثر اتساعاً مقارنة بما سبقها. مع ذلك، كانت الجولة مرشحة للاتساع أكثر، لدى الجانب الفلسطيني تحديداً، وباتجاه طبقة تصعيد تشمل في مرحلة وسيطة مدينتي أسدود وبئر السبع، قبل أن تتطور إلى وسط «إسرائيل» وما بعدها. أهمية مسارعة كيان العدو إلى الموافقة على التهدئة، على رغم تأكيد وتهديد الفصائل بالانتقال إلى دائرة استهداف أشمل قد تصل سريعاً إلى تل أبيب، معطى كاشف للموقف الإسرائيلي الممتنع عن التصعيد الأمني، وسيكون حاضراً بقوة لدى الفصائل، سواء قرب التصعيد المقبل أو بعد، ومن شأنه أيضاً أن يكون عاملاً مساعداً في البحث عن تسويات لإنهاء ما أمكن من حصار غزة.
حافظت الفصائل الفلسطينية على قواعد الاشتباك التي أرادت إسرائيل تجاوزها والتأسيس لما يغايرها، عبر تظهير نديتها في مواجهة العدو واعتداءاته، وتحديداً ما يتعلق بتماثلية الرد على الهجمات. نجاح، يتعلق بأصل تثبيت هذه القواعد، التي كانت لتنتهي في حال تردد المقاومين وامتناعهم عن ردود تناسبية، وكذلك يتعلق بما سيأتي لاحقاً من تجاوزات، إن قرر الاحتلال المجازفة والرهان على متغيّرات قد يرى أنها تدفع المقاومين إلى الانكفاء.
تراجعت صدقية إسرائيل لدى أعدائها إن هددت باستخدام الخيار العسكري


كان واضحاً منذ صباح أمس، إرادة التهدئة الإسرائيلية، وتحديداً لدى رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، وكذلك وزير أمنه، أفيغدور ليبرمان. التوجه لديهما ابتداء إلى تحديد جلسة الوزاري المصغر ما بعد ظهر أمس، كما كان يحصل في جولات سابقة، مثّلت إشارة إلى إرادة عقد الجلسة في ظل انتهاء التصعيد، بلا مناكفات سياسية، بعد تقديرهما أن المواجهة لن تمتد طويلاً. لكن إصرار الوزراء على النقاش في ظل التصعيد، وليس ما بعد إقرار التهدئة، دفع إلى تقديم موعد الجلسة إلى ساعات الصباح الأولى التي امتدت طويلاً، وخلصت إلى إقرار وقف إطلاق النار كما كان مقدّراً له من البداية.
اللافت، على رغم كل ما صدر أمس من مواقف متطرفة دعت إلى مواصلة الضربات وتشديدها في قطاع غزة، إن لدى وزراء أو مصادر سياسية وعسكرية على اختلافها، أن قرار المجلس الوزاري المصغر جاء بالإجماع: إقرار تهدئة من دون معارضة تذكر. بحسب الإعلام العبري، كل الوزراء، بما يشمل وزير الأمن أفيغدور ليبرمان، وصاحب الشعارات المتطرفة نفتالي بينت، وافقوا على التهدئة بلا تحفظات. وهو دليل ومعطى متجددان حول امتناع إسرائيل عن التصعيد في غزة، على رغم صورة التراجع التي تبدت بها مع مسؤوليها، ما يعني أن قرار الامتناع عن الحرب قرار استراتيجي، يرتبط بالمواجهة الشاملة نفسها مع غزة وتحديداً عما يليها، وكذلك بارتباطها بساحات تهديد أخرى، يتبيّن أن المؤسسة العسكرية تريد التركيز عليها في هذه المرحلة، على خلفية حجم التهديد الهائل وتناميه (لبنان وسوريا)، وبما يفوق أضعاف مضاعفة، تهديد غزة وتعاظمه المحدود قياساً بها.
يعني ذلك، في هذه النقطة، أن كل التصريحات الإسرائيلية حول نيات تصعيدية ضد القطاع والحديث المتكرر عن ضرورة العملية العسكرية الواسعة وما رافقها من عروض وبيانات أشارت إلى إمكان استدعاء احتياط أو استقدام آليات ومدرعات إلى حدود القطاع، هي بمجملها جزء لا يتجزأ من تفاوض إسرائيلي علني مع الفلسطينيين، ويهدف إلى ردعهم مع الأمل بأن لا تذهب الأمور إلى أبعد مما كانت عليه ميدانياً باتجاه توسيع دائرة الاستهداف الفلسطينية. الغرض النهائي من هذه التهديدات، هي التهدئة نفسها لا التصعيد، كما كانت توحي إليه ابتداءً.
في المحصلة، نتيجة تصعيد اليومين الماضيين، هي إظهار تردد وإرباك العدو أمام الفصائل الفلسطينية، مع ظهور الخشية الإسرائيلية من إمكان تطور المواجهة المحدودة ومجرد تبادل الضربات، إلى الانفلات نحو دائرة تصعيد أشمل، قد توصل إلى حرب ومواجهة واسعة، تبيّن وربما تؤكد من جديد، أن إسرائيل لا تريدها ولا تعمل عليها، بل وتؤكد عملياً على منع مسبباتها. حقيقة، ستكون حاضرة لدى الجانب الفلسطيني، مع أو من دون مرحلة تصعيد مقبلة، وهذه هي إحدى أهم نتائج التصعيد الأخير، التي يمكن للفلسطينيين استغلالها والتأسيس عليها، للدفع قدماً بتسويات تمكن من رفع ما أمكن من حصار للقطاع، الهدف الرئيس للفصائل الفلسطينية في هذه المرحلة.
في تأثير ساحات التهديد الأخرى على الموقف الإسرائيلي، قال عضو الوزاري المصغر، يوفال شتاينتس: «يبدو أن إطلاق النار تراجع، فنحن غير معنيين بالانجرار إلى حرب، وأنا لا أستطيع القول إن أحداً في إسرائيل لديه حل سحري لقطاع غزة». وأضاف: «المعركة التي نديرها مقابل تعاظم إيران وحزب الله في الشمال، أهم بأضعاف مما هو التهديد في قطاع غزة، ولدى (الكابينت) رأي مشترك واحد، في منع الحرب والتدهور، سواء لدى المستوى السياسي أو المستوى العسكري». كلام الوزير صحيح، ولا يبعد أن يكون تهديد حزب الله في الشمال، في سوريا ولبنان، أحد أهم العوامل التي منعت حرب إسرائيلية شاملة ضد قطاع غزة، لكن في الوقت نفسه، لو لم تكن المواجهة مع غزة ذات ثمن غير محمول، مع غياب أيضاً للجدوى والقدرة على تحمل تبعاتها في مرحلة ما بعد الحرب، لكانت إسرائيل لجأت إلى العدوان الواسع بلا تردد، ليس فقط ضد الفلسطينيين وإنهاء تهديدهم، بل أيضاً في سياق التحضير والتأثير والردع على التهديد الشمالي، الهادف إلى تظهير القدرة والاقتدار، ومساعدة المساعي والجهود في مواجهة تهديد الساحتين، في سوريا ولبنان.