تُنبئ المؤشّرات الاقتصاديّة السائدة في الفترة الراهنة بتحوّل مُقلق في نمط الاقتصاد السوري نحو هيمنة «الاقتصاد الريعي» وانحسار «الاقتصاد الإنتاجي» تدريجيّاً. كانت مجلّة «إيكونوميست» قد أصدرت في منتصف العام تقريراً مطوّلاً عن الاقتصاد السوري، تضمّن تحليلاً لواقعه، وتوقّعات لتطوّراته في العام المقبل. تنبّأ التقرير بارتفاع نسبة مساهمة «قطاع الخدمات» في 2019 إلى 125%. يُعدّ «القطاع الخدمي» مجالاً جامعاً للقطاعات المالية والمصرفية والاتصالات والسياحة والخدمات البترولية، فعلى أكتاف أيّ من المجالات المذكورة ستتحقق القفزة المتوقّعة؟ في ظل الغفوة التي تعتري قطاع «الخدمات البترولية»، لا تبدو مساهمته ممكنةً في المدى المنظور. ويعاني القطاع المصرفي بدوره من عقبات وعراقيل؛ فرغم ازدهار الإيرادات التشغيلية البنكية (خاصة للبنوك التقليدية /قطاع خاص، حيث أبرزت تقاريرها ارتفاعاً في الإيراد والأرباح)، فإنّ «مجلس التسليف والنقد» ما زال متمسّكاً برفض توظيف هذه السيولة الضخمة في القروض برفع سقوفها (لا سيّما السكنية). يبقى لدينا مجالان مؤهّلان لتحقيق تنبؤات «الإيكونوميست» هما الاتصالات والسياحة.
غلال وفيرة
تلفت المجلّة إلى تقرير أعدّه «البنك الدولي» في الفترة نفسها عن إنجاز الأعمال في سوريا، ويشير فيه إلى حرص وزارة السياحة على تقديم تسهيلات لافتة في التراخيص، حيث بات الحد الزمني الأقصى لاستصدار ترخيص بدء مزاولة عمل أو ترخيص منشأة هو 16 يوماً فقط، (في المقابل قد يحتاج المستثمر وقتاً يصل إلى سنتين لاستصدار ترخيص صناعي). شكّل هذا عامل جذب إضافياً للمستثمرين، فهؤلاء يميلون بطبعهم إلى القطاع الأسهل والأكثر ضخّاً للسيولة. هكذا ازدادت، وستزداد الاستثمارات في القطاع السياحي. ويتوقع «البنك الدولي» أن تصل مساهمة السياحة في «الناتج المحلّي» عام 2019 إلى 55%، وهذا طبعاً يُسجّل لوزارة السياحة لا عليها.
ليست العبرة بالتغنّي بأرقام «أكبر موازنة في تاريخ سوريا»


نصل إلى قطاع الاتصالات الذي سجّل ربحية خيالية حسب تقاريره المعلنة في وسائل الإعلام، ووفق تقريره المقدم إلى «هيئة الأسواق المالية السورية» عن نتائج أعماله نهاية عام 2017. سجلت شركة «سيرياتل» مثلاً أرباحاً قدرها 38.4 مليار ليرة في العام الماضي وحده (رأسمال الشركة 3 مليارات و350 مليوناً)، وبلغ سعر سهمها 1145 ليرة، أي ما يعادل أحد عشر ضعف قيمته الإسميّة، كما نمت إيراداتها في العام المذكور لتتجاوز 165 مليار ليرة، حصة الخزينة العامة منها 45 مليار ليرة (الحصة الأعلى في تاريخ الاتصالات السورية منذ إنشائها). أما شركة «MTN» فكانت أرباحها أقل من نظيرتها في شكل ملحوظ، وسجّلت 6.16 مليارات ليرة (رأس مال الشركة 1.5 مليار ليرة)، وبلغت أرباح السهم الواحد 411 ليرة بما يتجاوز أربعة أضعاف قيمته الاسمية (100 ليرة). تعكس المقارنة بين أرباح هذا القطاع في سوريا وأرباحه في دول عربية أخرى مفارقة لافتة، فأرباح الاتصالات الإماراتيّة مثلاً لا تتجاوز 12% سنويّاً، والسعوديّة 10%. الغريب أنّ هذه الأرقام لم تمنع وزارة الاتصالات من الحديث عن دراسة لمشروع حجب المكالمات الشبكية المجانية (واتس أب، ماسنجر، إلخ) لأنها تؤثر على أرباح شركات الاتصال!

الصناعة والزراعة: الكارثة
تقول «إيكونوميست» إنّ النسبة المتوقعة لمساهمة القطاع الصناعي في إجمالي الناتج المحلي حتى نهاية عام 2018 هي 8.9%، وتتوقّع أن تصل النسبة في العام المقبل إلى 12% (أسهم هذا القطاع عام 2017 بنسبة 33% من الناتج المحلي الإجمالي) ومن المؤسف أنّ هذا التراجع المطّرد بات أمراً طبيعياً في ظل انهيار وعود الدعم، وبطء إصدار التراخيص، وبطء إدراج الحلول التشاركية التي تستمر وزارة الصناعة في دراستها منذ قرابة عامين من دون أي قرار يذكر على الارض. ورغم الأهمية الاستثنائيّة لها القطاع وكثرة ما سوّق له من شعارات دعم وتسويف، فإنّ الزيادة الإنتاجية الحقيقية في نموه ستكون بنسبة 25% سنويّاً، وهذه من أقل النسب لبلدان «إعادة الإعمار» بعد الحروب.
الكارثة الأخرى من نصيب القطاع الزراعي، الذي يتوقّع أن يسهم حتى نهاية العام الحالي بنسبة 12% من إجمالي الناتج العام، وتعد المؤشرات بانخفاض كبير في النسبة لتصل إلى 5% فقط في عام 2019 (أي بانخفاض قدره 125%)! في الواقع، لا يعد هذا الانحدار مفاجئاً في ظل الإهمال الهائل للزراعة والامتناع عن تقديم الدعم للفلاحين، إضافة إلى وجود مضاربات خفيّة تؤذي هذا القطاع (أشهر مثال هو قيام أكبر مستوردي الموز بخفض سعره إلى درجة كبيرة بالتزامن مع موسم الحمضيّات الذي سجّل خسائر لافتة في السنوات الماضية، إلى حد قيام الفلاحين برمي محصولهم بدل تسويقه، لأن سعره لا يكفي لتغطية أجور النقل!).
علاوة على ما تقدّم، تشير التوقعات إلى ارتفاع محتمل للاستثمارات الثابتة في البلاد من 12% من رؤوس المال وثروات الناتج المحلي الإجمالي في 2018 إلى 19% في 2019، بزيادة مقدرة بـ37%. وهي نسبة جيدة إن تم توجيهها إلى استثمارات إنتاجية لا استهلاكية، فالاستثمار في الصناعة والزراعة سيدعم المنتج وصولاً إلى تخفيض السعر في السوق المحلي واستحضار إضافي للقطع الأجنبي من السوق الخارجي. أما التوقعات المتعلقة بنمو القطاع العام، فتشير إلى نمو لاستثماراته من مساهمة نسبتُها 4% من الناتج المحلي الإجمالي، إلى 55 %. هذه النسبة الرمزية تمثّل مساهمة الحكومة في تحسين الاقتصاد السوري! وفي ظل كل هذا، تقترح الحكومة في موازنة العام الماضي تخصيص 20 مليون دولار فقط لدعم الزراعة، و60 مليون دولار فقط لدعم الصناعة، وذلك من أصل موازنة قدرها 9 مليارات دولار. ليست العبرة، ولن تكون يوماً، بالتغنّي بأرقام «أكبر موازنة في تاريخ سوريا». فما دامت بالاستدانة، وما دامت تذهب للاستهلاك لا للإنتاج، فلا يمكن عدّها إلا سعياً نحو «لبننة» الاقتصاد السوري.