قبل يومين وصل مشروع «قانون الموازنة العامة لعام 2019» إلى مجلس الشعب. وكانت الحكومة قد اعتمدت المشروع قبل نحو عشرة أيام، بحجم 3882 مليار ليرة سورية وسعر صرف 435 ليرة للدولار الواحد، ما يعني أن حجم الموازنة يفوق بقليل 8.9 مليارات دولار. في المقابل، كان حجم موازنة العام الماضي 3187 مليار ليرة، وبسعر صرف 514 ليرة للدولار الواحد، أي توازي 6.2 مليارات دولار، ما يعني أن موازنة العام الحالي أكبر بـ695 مليار ليرة (نحو 1.6 مليار دولار وفقاً لسعر الصرف الحالي). لكن بقليل من الحسابات سنكتشف وجود «فرق عملة» يقدر بـ1.1 مليار دولار بين الموازنتين بفضل خفض سعر الصرف (نتيجة تحسن وضع الليرة السورية) من 514 ليرة إلى 435، ما يجعل الفارق بين الموازنتين بالدولارات (حسب سعر الصرف في كل موازنة على حدة) 2.7 مليار دولار. طيّب، أين دُفن «فرق العملة» هذا؟ فلنحاول أن نكتشف.في تفصيل الموازنة، نتناول أوّلاً الهم الأساسي لكثير من السوريين، وهو زيادة الرواتب. جاءت كتلة الرواتب والأجور في الموازنة الجديدة برقم 482 مليار ليرة سورية، لتزيد بنسبة 3% عن كتلتها في 2018 التي كانت 467 مليار ليرة سورية (نستنتج أن ما صرّح به سابقاً وزير المالية من أنّ كتلة الرواتب هي «ألف مليار تشكّل ثلث الموازنة» لا له علاقة بالواقع). هذا يعني عدم وجود زيادات على الرواتب في العام المقبل، مع ذلك نجد بنداً يتحدّث عن زيادة بنسبة 100%! ما سرّ ذلك؟ هو ببساطة وصفة حكوميّة عجيبة تتمثّل في زيادة بنسبة 12% على تعويضات العاملين (تتضمّن أساساً الترفيعات الدورية الروتينيّة) مخلوطةً بـ87% عبارة عن فرص عمل جديدة عدّتها الحكومة «زيادة راتب»! كيف؟ لا نظنّ أن العبقريّات الاقتصاديّة عبر التاريخ قد نجحت بعد في ابتكار نظريّة تُفسّر كيف يمكنك أن تزيد راتب موظف بأن توظف أشخاصاً آخرين!
زاد الإنفاق الحكومي بنسبة تقارب 100% لحكومة غير منتجة


كان بند العمليات الاستثمارية في 2018 بقيمة 825 مليار ليرة (1.6 مليار دولار حسب سعر الصرف حينها)، وارتفع الرقم في هذه الموازنة ليصل إلى تريليون ومئة مليار ليرة (2.5 مليار دولار حسب سعر الصرف الحالي). ترى الحكومة أن الفرق بين الرقمين 275 مليار ليرة (600 مليون دولار وفقاً لسعر الصرف الجديد)، لكنه في الواقع 900 مليون دولار! هنا 300 مليون دولار فرق سعر الصرف يذهب للعمليات الاستثمارية، وهذا أمر ممتاز، سواء كان مقصوداً أو لا. أما مخصصات العمليات الإنفاقية (تشمل نفقات إدارية ونفقات تحويلية ورواتب وديون واجبة السداد)، فكانت تقدَّر بـ2362 مليار ليرة في الموازنة السابقة (4.5 مليارات دولار وفقاً لسعر الصرف حينها)، لترتفع حالياً إلى 2882 مليار ليرة (6.6 مليارات دولار وفقاً لسعر الصرف الحالي). الفرق بالليرات هو 520 ملياراً، يبدو أنّ الحكومة تراه «بيضة» بقيمة 1.2 مليار دولار، ونراه نحن «جملاً»، لأن الفرق الحقيقي هو 2.1 مليار دولار! إذاً، فقد جُيِّر المليار دولار «فرق العملة» للنفقات الحكومية! أما تفصيل «العمليّات الإنفاقيّة»، فعلى النحو الآتي: 1.1 مليار دولار رواتب، 2.1 مليار دولار تسديد ديون، ليبقى نصف الكتلة تقريباً (3.4 مليارات دولار) مخصّصاً للنفقات الإدارية والتحويلية! (نعم، هذه ليست مزحة، نحو 40% من موازنة 2019 سيذهب للنفقات الإدارية والنثريات والقرطاسية! ثمّة من يرى أنّ بالقرطاسية تُبنى الأمم). في المقابل، هناك 23% من الموازنة ستذهب لإيفاء ديون واجبة السداد، و12% رواتب وأجور وتعويضات (متضمنة التوظيف الإضافي)، و25% للاستثمار وإعادة الإعمار.
لا تفوتنا الإشارة إلى أن مخصصات «الدعم الاجتماعي» فاقت 800 مليار ليرة موزّعة على المحروقات والخبز والكهرباء. أما الإنفاق الحكومي، فقد زاد بنسبة تقارب 100% لحكومة غير منتجة (خلافاً لما تحاول الحكومة تسويقه من أن زيادة الإنفاق 17% فقط). هذا البند كفيل بإلحاق الضرر بأيّ بلد كان، لأنّ معناه: زيادة في الإنفاق وتواضع في الإيراد بعد حرب مُنهِكة. وبمزيد من التمحيص سنجد أنّ العجز الذي كان 809 مليارات ليرة في موازنة 2018 سيصبح 845 مليار ليرة. أي، بحسب سعر الصرف الجديد، سيصبح 1.9 مليار دولار، بدلاً من 1.6 مليار دولار! حتى «فرق العملة» لم يُوظَّف لخفض العجز الحكومي، أو خفض سحب الحكومة المستمر من الاحتياطي (كأنه محفظتُها الخاصّة ويحق لها أن تسحب منه ما شاءت ومتى شاءت، وليس احتياطياً بُني منذ عقود ليكون رصيداً استراتيجيّاً للبلاد). إنّ المعطيات التي تكشفها الموازنة توضح بجلاء أننا في طريقنا نحو الاستدانة بالعجز من الاحتياطي، ولمبلغ قد يكون أعلى من موازنة الحرب!
رغم كل ذلك، غداً سيطالعنا الكثيرون بالتهليل، لأنّ الميزانية (حال اعتمادها) ستكون الأكبر في تاريخ البلاد.