في وقت تعيش السعودية على وقع أزمة مقتل الصحافي جمال خاشقجي، تحاول الولايات المتحدة تخفيف الضغوط المحيقة بالرياض بطرق شتّى، يبدو أن من بينها إعادة تحريك الملفّ اليمني. وفيما لا يظهر واضحاً ـــ إلى الآن ـــ ما إذا كانت تلك المحاولات تستهدف فقط إحداث ضجّة إعلامية بغرض تحويل الأنظار عمّا تواجهه المملكة، أو أنها تمهّد فعلياً لوضع الأزمة اليمنية على سكّة الحلّ، تقابَل المبادرة الأميركية بهذا الخصوص، والتي هي عملياً نتاج إعادة تدوير لمبادرة وزير الخارجية السابق جون كيري، برفض قاطع لدى «أنصار الله» وحلفائها، لما تتضمّنه من بنود خطيرة متّصلة بمستقبل اليمن السياسي وشكل الدولة المنشودة فيه. بنود لا يمكن، من وجهة نظر القوى الوطنية في صنعاء، اعتبارها أساساً للمفاوضات، حتى لو كان وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، يستهدف من وراء طرحها اقتراح إطار تفاوضي جادّ للجولة المنتظرة في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.يوم السبت الماضي، أفرد ماتيس مساحة واسعة من خطابه أمام مؤتمر «حوار المنامة» الأمني، الذي انعقد في البحرين، للأوضاع في اليمن. رأى الوزير الأميركي أنه «حان الوقت للمضيّ قدماً في وقف هذه الحرب»، مشدداً على ضرورة «البدء بالتفاوض على القضايا الجوهرية». مقدمة أتبعها بما سمّاها «صيغة للتسوية»، تتكوّن من شقّين: يتصل الشقّ الأول بالحدود، التي دعا ماتيس إلى أن تكون «خالية من الأسلحة... يجب ألا يكون هناك شيء أكثر من الجمارك وشرطة الحدود». أما الشقّ الثاني فيرتبط بـ«نزع الأسلحة الثقيلة»؛ إذ إنه «لا حاجة للصواريخ في أي مكان من اليمن. لا أحد سيغزو اليمن». من بعد ذلك، «نعود إلى اقتراح الحكومة المدعومة من الأمم المتحدة، الحكومة التي تعطي الأوطان التقليدية للناس الأصليين». في هذه الحالة، «يكون الحوثيون في مناطقهم، ويحظون ببعض المقدار من الحكم الذاتي... لا يحتاجون إلى مساعدة من إيران».
أنصار الله: اليمن بلد متجانس ثقافياً والصراع داخله سياسي


يبدو لافتاً في مبادرة ماتيس أنها لم تتطرّق، شأنها شأن مقترحات كيري، إلى القرار الدولي 2216، الذي تتمسّك به حكومة الرئيس المنتهية ولايته، عبد ربه منصور هادي، كـ«مرجعية للحلّ». لكنها تعيد تقديم «الأقلمة» التي أقرّها مؤتمر الحوار، على رغم اعتراض قوى عديدة على رأسها «أنصار الله» عليها، كوصفة لإخراج اليمن من أزمته. وصفة تصفها مصادر من داخل «أنصار الله»، في حديث إلى «الأخبار»، بأنها «غير واقعية وغير عملية»، مؤكدة أنه «لا يمكن الحركة القبول بها لأننا لسنا أقلّية». وهو ما شدّد عليه أيضاً عضو وفد صنعاء التفاوضي، عبد الملك العجري، معتبراً أن «ماتيس يتحدث كما لو أن أنصار الله يمثلون قومية عرقية، أو أن اليمن بلد إثني متعدد العرقيات، أو أن الصراع في اليمن اجتماعي وليس سياسياً»، مضيفاً أن الوزير الأميركي «نسي أن اليمن بلد واحد متجانس ثقافياً، وأنصار الله مكون وطني موجود في معظم المناطق، والصراع سياسي». ورأى العجري أن «حديث ماتيس يكشف عن نواياهم التفتيتية، المرفوضة من كل القوى الوطنية».
وإلى جانب إعادة تصدير الأقاليم الفيدرالية بوصفها شكلاً «مقبولاً» لدولة ما بعد الحرب، مع ما يعنيه الأمر من إضعاف لليمن وتضييع لعناصر قوّته، يسترجع ماتيس مقترح كيري في شأن تسليم الأسلحة الثقيلة إلى «طرف ثالث»، إنما بصيغة أكثر فجاجة، لا يجد مبرراً لها سوى ضمانة لفظية بأن هذا البلد «لن يكون معرّضاً للغزو». بعد حوالى أربع سنوات من مراكمة الوسائل الدفاعية، والاشتغال على تطويرها، وصولاً إلى ما أعلنته القوة الصاروخية في الجيش واللجان الشعبية قبل أيام من انتقال إلى «مرحلة الصواريخ الذكية»، تريد الولايات المتحدة من اليمنيين التخلّي عن ذلك كله بذريعة أنه «لا حاجة للصواريخ»، في حين تأكّد للقوى الوطنية على امتداد عمر العدوان أنه لا بديل من قوة رادعة تكبح لجام السعودية التي لم تكن «عاصفة الحزم» أولى غزواتها ضد اليمن، وأنه لا جدوى من «الضمانات الدولية» في هذا الإطار، خصوصاً أنه لم يبقَ أيّ من «الضامنين الكبار» إلا و«بلّ يده» بهذه الحرب دعماً للرياض. ولعلّ الردّ اليمني العملي على ما أدلى به ماتيس جاء في اليوم نفسه، عبر إماطة اللثام عن صاروخ «بدر P-1» الذكي، والتوعّد بالكشف عن منظومات صاروخية أخرى قريباً.
انطلاقاً من ذلك كله، تؤكد مصادر «أنصار الله» أن مبادرة ماتيس، فيما لو كانت جدية وغير مندرجة في إطار المناورة، غير قابلة للتحوّل إلى إطار أو صيغة تتبنّاها الأمم المتحدة وتعرضها على الأطراف في المشاورات المقبلة، وفق ما دعا إليه الوزير الأميركي، إذ إن أي خطوة من هذا النوع ستكون محكومة بالفشل. وترفض المصادر نفسها إقحام إيران في مسألة الحلّ في اليمن، بعدما كان ماتيس شدّد على ضرورة أن تضمن التسوية «ألّا نرى إيران تستخدم دولاً كطرق لجلب أسلحة تُستخدم في زعزعة الاستقرار وتعطيل الحركة التجارية في الخليج، أو إطلاق صواريخ على أهداف مدنية في السعودية». وعلى رغم أن المبادرة الأميركية الجديدة تستهدف، في حقيقتها، منح السعودية بالمفاوضات ما لم تستطع أخذه بالقوة، أي تحجيم «أنصار الله» وفتح الطريق على حصرها في إقليم من أقاليم الشمال، إلا أنها لم تَرُق الأوساط الموالية لحكومة هادي، وهو ما يجلّي مجدداً وهماً يسكن «الشرعية»، محوره أن همّ إعادتها إلى صنعاء يشغل عواصم العالم، علماً أن معظم المبادرات التي طُرحت لحلّ الأزمة في اليمن، حتى الأميركية منها، تنحو منحى تجاوزها (أي الشرعية)، على اعتبار أنها لم تكن إلا غطاءً وبيدقاً للحرب السعودية.