تونس | سجّل مؤشر البورصة التونسية صباح أمس ارتفاعاً مهماً لأول مرة منذ ثلاث سنوات، وهو ما يعكس حالة الارتياح التي يعيشها الشارع التونسي غداة الإعلان عن الحكومة الجديدة والمصادقة على الدستور، بعد أكثر من عامين من التجاذبات السياسية والخضّات الأمنية. التونسيون بعد ختم الدستور وولادة الحكومة الجديدة أصبحوا يتحدثون عن «نموذج تونسي» في التوافق بين الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والاقتصادية؛ فلولا مبادرة المنظمات الأربع الراعية للحوار ويقظة جمعيات المجتمع المدني التي رابط أنصارها في الشوارع والساحات، والإعلام الذي يعيش ربيعه بعد سنوات الديكتاتورية، لما وصل التونسيون الى هذه المرحلة من الوفاق، والتي ستنقذ التجربة التونسية في الانتقال الديموقراطي بعد فشل التجارب العربية الأخرى وتعثرها. تزامن إعلان الحكومة الجديدة والمصادقة على الدستور جاءا بعد ستة أشهر من أزمة سياسية خانقة كادت تدفع البلاد الى المجهول والاقتتال الأهلي، ربما. فبعد اغتيال الزعيم الناصري محمد البراهمي في ٢٥ تموز الماضي، تعطّل المسار السياسي وطالبت جبهة الإنقاذ، التي وحّدت المعارضة بما فيها الأحزاب المُنحدرة من التيار الدستوري الحاكم سابقاً، بحل المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان) والحكومة.
وخرج التونسيون بالآلاف الى الشارع، حيث أعلن عدد من زعماء المعارضة أن حل الحكومة وخروج حركة النهضة من الحكم هما الحل الوحيد لتجنب سيناريوهات الفوضى أو تدخل الجيش.
وتواصلت هذه الأزمة الى حدود ١٠ كانون الثاني الجاري، عندما كلّف رئيس الجمهورية المؤقت مهدي جمعة لتشكيل حكومة جديدة من المستقلين، أعلن عنها مساء أول من أمس بتركيبة ضمت ٢١ وزيراً و٧ كتاب دولة (وكيل وزارة).
ويمثل نجاح التونسيين في الوصول الى الوفاق مؤشراً على قدرة تونس على أن تكون بلداً ديموقراطياً، وذلك لوجود تجربة عريقة في المجتمع المدني وخاصة في الحركة النسوية والحركة النقابية؛ فإذا كانت «النهضة» قد استجابت لضغط المجتمع المدني وجنحت للوفاق، فإن ذاك لم يكن بالأمر الهيّن. ذلك أن قوى المجتمع المدني من جمعيات وحركة نسوية ونقابية وقضاة ومحامين وصحافيين وأطباء ومهندسين قد أفشلت بمقاومتها السلمية مشروع «أخونة» الدولة والمجتمع الذي كانت حركة النهضة تنوي تركيزه في البلاد بعدما فازت بأكبر عدد من المقاعد في المجلس التأسيسي.
تعكس المصادقة بشبه إجماع على الدستور (٢٠٠ عضو ساندوا و١٢ رفضوا و٤ احتفظوا بأصواتهم) اقتناع الحركة الإسلامية، التي كانت تقود الترويكا الحاكمة، بأن الخروج عن الوفاق الوطني يعني سوق البلاد نحو الجحيم.
الرئيس المؤقت حضر أمس جلسة المصادقة على الدستور، بمشاركة ضيوف عرب وأجانب، حيث قال إن تونس تدخل مرحلة جديدة في تاريخها شعارها المؤسسات الديموقراطية التي تضمن الحرية والكرامة والتداول السلمي على السلطة، وفسح المجال واسعاً للمشاركة السياسية.
وقبل توقيع الدستور، قال الرئيس التونسي في خطاب توجه به الى أعضاء البرلمان، «هذا يوم اكتمال انتصارنا على الديكتاتورية المقيتة التي أطحناها ... وهذا اليوم هو تواصل لانتصارنا على الإرهاب الذي حاول عبر اغتيال شهيدي الشعب ... شكري بلعيد ومحمد البراهمي إيقاف مسلسل التحرّر الفكري والسياسي الذي يجسده دستورنا الذي نحتفل به»، معتبراً أن تونس كتبت بدستورها الجديد «عقداً اجتماعياً جديداً».
وفي نشوة الفرحة بختم الدستور الجديد وإعلان الحكومة، يستحضر التونسيون بالكثير من الحزن والأسى الشهداء الذين اغتالهم المتشددون، الذين وفرت لهم «النهضة» الغطاء السياسي لارتكاب جرائمهم، إذ غضّت الداخلية الطرف عن تهريب السلاح.
لذلك اعتبرت أحزاب المعارضة ونوابها في المجلس التاسيسي أن هذا الدستور مكتوب بالدم، وأن الحكومة الجديدة فُرِضت على «النهضة» ولم تكن اختياراً منها، لأنها في كل مرة وإلى ساعة متأخرة من مساء السبت التفّت على التوافق وانقلبت على ما تم الاتفاق عليه في الحوار الوطني. لذلك رأى عدد من المحللين أن ما انتهى إليه التونسيون من وفاق هو خطوة إيجابية جداً،
لكنه سيبقى وفاقاً هشاً ما لم تلتزم الحكومة الجديدة بخريطة الطريق؛ وأبرز معالمها مراجعة التعيينات وحل ميليشيات حماية الثورة المدعومة من أحزاب النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية وحركة وفاء، وتطبيق القانون ضد الجمعيات والأحزاب التي تدعو الى تغيير النمط الاجتماعي للتونسيين والمعادين للجمهورية.
كذلك تطالب المعارضة بتحييد المساجد، وهذه ستكون في ما يبدو من المعارك الكبرى بين المعارضة ورئيس الحكومة، إذ إن وزير الشؤون الدينية الجديد منير التليلي، معروف بميوله إلى الوهابية وقربه من «النهضة».
يبدو أن هذا الوزير سيكون محور معركة كبيرة بين القوى الديموقراطية من جهة، ورئيس الحكومة من جهة أخرى، فهو معروف بدعوته إلى مراجعة مجلة الأحوال الشخصية وإحياء قانون الأوقاف الإسلامية والتنظير للاقتصاد الإسلامي.
لقد حافظ جمعة على وزيرين من حكومة العريض، وهما: وزير الداخلية لطفي بن جدو، وكاتب الدولة للصناعة نضال الورفلي، الذي ارتقى الى رتبة وزير منسق الشؤون الاقتصادية لدى رئاسة الحكومة.
أما بقية الوزراء، فلم يسبق أن تقلّدوا أي منصب وزاري في عهدي بن علي والحبيب بورقيبة، ومعدل الأعمار هو أربعون عاماً، وهذه هي الحكومة الأكثر شباباً في تاريخ تونس وهي الحكومة السادسة بعد إطاحة بن علي. وتضم قضاة وأساتذة جامعيين ومهندسين وخبراء لدى منظمات دولية، كما تضم ثلاث نساء. ولأول مرة في تاريخ تونس، يتولى فنان موسيقي حقيبة في الحكومة (الثقافة).
لقد حظيت التجربة التونسية الأخيرة بإشادات عربية ودولية، كان أبرزها على لسان مسؤولة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون، التي وصفت المصادقة النهائية على الدستور التونسي بـ«التطور المهم في مسار الانتقال الديموقراطي في البلاد». أما وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير، فقال إنها «التجربة المنفردة».



ترحيب دولي بالدستور التونسي

لاقت خطوة التصديق على الدستور الجديد في تونس ترحيباً دولياً واسعاً قدّر الخطوة التي من شأنها أن تساهم في استقرار البلاد.
ووجه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في بيان «تهانيه الحارة» للشعب التونسي على اثر تبني الدستور الجديد للبلاد، ورأى أن «هذا النص يضع أسس ديموقراطية محترمة لحقوق وحريات كل المواطنين»، و«يشكل مرحلة مهمة نحو إنهاء العملية الانتقالية السياسية التي بدأت أثناء الثورة التونسية».
من جهتها، رحبت المفوضة العليا للسیاسة الخارجیة والأمن الاوروبي کاثرین آشتون بالتصديق على الدستور، داعيةًَ إلى إجراء انتخابات شفافة في أسرع وقت في البلاد. ورأت آشتون أن تأليف الحكومة الجديدة «خطوة إضافية في العملية المؤسسة على الاجماع في إطار الحوار الوطني».
من جانبه، رأى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أن التصديق على الدستور حدث تاريخي لتونس، مؤكداً في بيان أن «النموذج التونسي يمكن أن يكون مثالاً للشعوب الهادفة الى الإصلاحات».
بدوره، وصف وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير التصديق على الدستور الجديد وتشكيل الحكومة التونسية بـ«التجربة المنفردة».
أما مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى أفريقيا، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الاتحاد (مجلس الشيوخ) ميخائيل مارغيلوف، فرأى أن التصديق على الدستور الجديد يبعث على الأمل بالتغلب قريباً على الأزمة السياسية في وطن «الربيع العربي».
(أ ف ب، الأناضول، رويترز)