لم تُفلح بيانات الاستنكار التي أصدرتها القوى في القدس، ولا الفتاوى الصادرة عن شيوخ المدينة، على مدار الأسبوعين الماضيين، في لجم سلسلة تسريب العقارات المقدسية، ولا سيما في البلدة القديمة، إلى المستوطنين والجمعيات الإسرائيلية ذات العلاقة. فحتى محاولة ناشطين مقدسيين جَمْع أطراف بيع وتسريب «عقار السعدية» (المشتري الثاني خالد العطاري والبائع أديب جودة (نيابة عن والدته اللبنانية لمياء) والمشتري الأول فادي السلامين، عبر الهاتف) من أجل «فك لغز» تسريب العقار (الخميس 11/10/2018)، لم تفضِ إلى نتيجة، في ظلّ رفض كل طرف الاعتراف بمصدر أمواله (راجع: عقار «السعدية» بيد المستوطنين، العدد 3581 في 2018/10/5).وبينما اتُّفِق على الاجتماع مجدداً الخميس التالي (18/11)، عمد الاحتلال للمرة الأولى إلى اعتقال عدد من هؤلاء الناشطين (كمال أبو قويدر وفادي مطر والشيخ عبد الله علقم)، قبل أن يفرج عنهم بشرط التوقيع على تعهد بمنع التعرض للعطاري أو عقد اجتماعات «تحت السيطرة الإسرائيلية بصورة غير شرعية». كذلك، اعتقلت قوات الاحتلال محافظ القدس عدنان غيث، ومدير مخابرات القدس، جهاد الفقيه، ومحامياً فلسطينياً، متهمة إياهم بالتحقيق مع متهمين في محاولات التسريب، لكنها أطلقتهم أول من أمس بشروط؛ منها «الحبس المنزلي والغرامة المالية العالية».
وكانت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية قد قالت إن شرطة الاحتلال في المدينة منعت إتمام «التحكيم» الذي أشرف عليه الشيخ علقم، وذلك لـ«منع نشر أسماء المتورطين في البيع»، وخاصة أن العطاري ادعى بأنه تعرض لتهديدات، كما اشتكى تجار أراضٍ وسماسرة آخرون من تعرضهم لتهديد بالقتل، علماً بأن محكمة إسرائيلية رفضت طلب الشرطة تمديد مدة اعتقال الناشطين. وذكرت الصحيفة أن اعتقال المحافظ ومسؤول المخابرات شارك فيه جهاز «الشاباك»، وقد عرضا على محكمة عسكرية، بعدما عملا على «تنظيف اسم السلطة وكشف المسربين»، مشيرة في الوقت نفسه إلى أن الطرفين، السلطة والقيادي المفصول من «فتح» محمد دحلان المرتبط به السلامين، يتبادلان الاتهامات حول تسريب «عقار السعدية»، وأن السلطة استنكرت «التدخل الإسرائيلي»
بالعودة إلى جلسة الخميس، أقرّ كِلا المشتريين، السلامين والعطاري، بأن من عرّفهما إلى البائع أديب جودة هو الشخص نفسه (رئيس «مجلس أمناء جامعة الخليل» نبيل الجعبري)، وأن من نسق لهما العقود هو المحامي نفسه الذي يرتبط بدحلان، لكن السلامين رفض القول إن العطاري عمل بناء على طلبه، بل اتهمه بالعمل مع السلطة. وفي المقابل، رفض جودة ما صدر في بيانات القوى الوطنية والإسلامية باتهامه بالتورط في القضية.
وعلمت «الأخبار» أن الوسيط الذي نسق أخيراً بين المشتري الثاني (العطاري) والبائع (أديب جودة) يدعى مرتضى ازحيمان، وأنه من أتى بالأموال للعطاري. وازحيمان كان يحمل الهوية الفلسطينية فقط، لكنه فجأة حصل على هوية زرقاء من القدس، وكان يعمل في إطار التجارة في منطقة بيت حنينا، لكن سمعة عمله التجاري سيئة في توزيع المواد التموينية.

من اليمين أديب جودة وخالد العطاري وفادي السلامين

عقار العلمي
بينما كانت هذه القضية تصل إلى طريق مغلقة، في ظل صمت السلطة عن نتائج التحقيقات التي تجريها، سُرّب في الأيام الماضية عقار جديد يبعد عن المنزل الذي كان ملكاً لآل جودة (الحسيني) نحو 30 متراً، والاثنان يطلّان على قبة الصخرة والمسجد الأقصى. العقار الجديد، كما أفادت مصادر مقدسية، يعود إلى مروة العلمي وابنها كمال، اللذين باعاه لأمجد وليد جابر بنحو 9 ملايين دولار، فيما تنازل الأخير بسرعة عنه للمستوطنين. وعلمت «الأخبار» أن السلطة اعتقلت الوسيط الذي أشرف على البيع بين العلمي وجابر، وهو عصام جلال عقل منذ نحو أسبوعين، لكنها لم تعلن الأمر لأن أوساطاً في عائلة العلمي وناشطين مقدسيين كانت تحاول إنقاذ العقار عبر إسكان بعض الورثة فيه، وذلك في ظل اتهامات وسط العائلة بتزوير توقيعاتهم في حصر الإرث ثم عقد البيع.

عصام عقل

وكان عقل قد حصل على «إذن شراء» من «محافظة القدس» التابعة للسلطة. وورد في الإذن الذي وردت نسخة عنه إلى «الأخبار»، أنه يسمح لعقل بشراء حصص إرث العلمي في العقار، بالإضافة إلى حصص مالك آخر هو إياد اشتية الذي يحمل جواز سفر أميركياً. لكن هذا الإذن شُدّد فيه على «أن لا يتم التصرف في العقار مستقبلاً، سواء بالبيع أو الرهن، إلا من خلال محافظة القدس الشريف»، وهو ما يستدعي رداً واضحاً من السلطة التي يحقق جهازا «الأمن الوقائي» و«المخابرات» فيها مع عقل، علماً بأنه يعمل مديراً تنفيذياً لـ«الاتحاد الفلسطيني للهيئات المحلية».

إذن البيع لعصام عقل (انقر على الصورة لتكبيرها)

وأمس، أصدرت «محافظة القدس» بياناً قالت فيه إن ما فعله عقل لم يكن لها علم به، ولذلك «الشراء يعتبر لاغياً بسبب الإخلال بشروط إذن الشراء»، مضيفة إن «أي معطيات جديدة تظهر مستقبلاً بخصوص هذا العقار... يتحمل وحده من تثبت علاقته بذلك أمام الجهات صاحبة الاختصاص والمجتمع والقانون».

توضيح من محافظة القدس (انقر على الصورة لتكبيرها)

وفي المقابل، تنفي عائلة عقل معرفته بنية التسريب أو مشاركته فيه.


وكانت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية قد نقلت الخميس الماضي عن مصادر فلسطينية قولها إن أمن السلطة اعتقل مواطناً فلسطينياً ــــ أميركياً بشبهة ضلوعه في تسريب عقار في البلدة القديمة، وإن المتهم عمره 55 عاماً، وتحقق معه أجهزة الأمن في رام الله «لضلوعه في بيع منزل لمنظمة صهيونية استيطانية»، مقابل 25 ألف دولار، لكن لم يتضح هل حديث هذه المصادر هو عن اشتية أم عقل، في ظل حديث مصادر أخرى عن أن اشتية يقطن في الولايات المتحدة حالياً. وأضاف الخبر إن مسؤولين في الحكومة الأميركية قالوا إنهم على علم بالاعتقال، لكنهم «أعربوا عن قلقهم من أنه سيعامل بعدل».

عقار سلوان
أمس، كشف عن تسريب جديد جنوبي المسجد الأقصى، وتحديداً بين حي بطن الهوى في منطقة سلوان، ورأس العمود في البلدة القديمة، وخاصة أن الشرطة الإسرائيلية وصلت مساء أول من أمس إلى العقار المكون من ثلاث طبقات وعاينته، وهو لا يبعد عن مبنى آخر يقطنه مستوطنون. ووفق مصادر محلية، المسؤول عن التسريب هو يوسف أبو صبيح (عكاشة)، الذي سبق له أن عمل على تسريب عقار آخر يملكه والده في منطقة باب الحديد في البلدة القديمة لمصلحة جمعية «عطيرت كوهنيم» الإسرائيلية، مضيفة إن تأخر دخول المستوطنين إلى البيت الجديد يرجع إلى كون شقيق أبو صبيح لم يقبل البيع ولم يغادر المنزل بعد.
تحاول وجوه مقدسية تكوين قيادة مقابلة للسلطة بتمويل إماراتي


جراء ذلك، أصدرت عائلة أبو صبيح بياناً أمس، قالت فيه: «نحن عائلة لها تاريخها النضالي وقدمت من أبنائها الشهداء والجرحى والأسرى... مجلس وعموم العائلة يؤكدون منع أي فرد من أفراد العائلة من بيع أو شراء أو الوساطة في صفقات الأراضي والبيوت والعقارات في محافظة القدس وضواحيها وكامل أنحاء فلسطين دون الرجوع إلى مجلس العائلة وإطلاعه على تفاصيل الاتفاقية وأطرافها كافة وأسماء المحامين». وأضاف البيان: «كل من لا يلتزم مضمون ما ذكر يتحمل وحده كامل المسؤولية في حال التسريب للعقار، وتخلي العائلة ومجلسها ولجنتها المسؤولية التامة عن ذلك، ويعرض نفسه للعقوبات من العائلة بالمقاطعة الاجتماعية وقد تصل إلى البراءة التامة منه».

المسرب الجديد يوسف عكاشة أبو صبيح

تمهيداً لـ«صفقة القرن»؟
تشرح مصادر مقدسية أن التسريب المتوالي لهذه العقارات يرجع إلى سببين: الأول غياب الرادع الرسمي أو المجتمعي (في ظل خفوت موجات المقاطعة الشعبية للمسربين)، والثاني الخصام السياسي بين السلطة ودحلان، إذ يعمد الأخير إلى إظهار أن الأولى تسرب العقارات للمستوطنين، مع أن الشبهات تدور حوله في قضايا سابقة ومماثلة، علماً بأن السلطة تموّل مصاريف المحامين في قضايا ملاحقة المسربين، لكنها لا تستطيع اعتقالهم في المناطق التي لا تخضع لسيطرتها. وتشدد تلك المصادر على أن هذا لا يمنع أن هناك من داخل السلطة «من تسوّل له نفسه تسريب العقارات، لكن هذا ليس توجهاً عاماً»، مضيفة إن لكل من قطر وتركيا والمغرب والإمارات والسعودية وحتى مصر عقارات في القدس مسجلة بأسماء شخصيات أو شركات تحمل جنسيتها، اشتريت خلال العقدين الأخيرين. ولذلك، تتخوف من أن يحدث «تغيير سكني» أشبه بالتغيير الديموغرافي، وذلك بزيادة نسبة العقارات والأراضي المسجلة لإسرائيليين، مقابل تلك المسجلة لفلسطينيين، وهو ما سيعقد حتى على المفاوض الفلسطيني المطالبة بأن تكون القدس عاصمة رمزية أو حتى منطقة دولية.
وأضافت المصادر نفسها إن وفداً من شخصيات ووجهاء في المدينة، يحاولون تشكيل «قيادة بديلة» في القدس، سافروا إلى الإمارات بعد تسريب عقار السعدية، وذلك لمقابلة محمد دحلان، حيث وعدهم الأخير بترميم نحو 100 بيت في البلدة القديمة بقيمة 20 ألف دولار لكل بيت، وتقديم منح دراسية كاملة لطلاب مقدسيين، وإعطاء قروض بلا فائدة (ألف قرض وكل قرض 10 آلاف دولار) تحت عنوان «دعم القدس».


«هآرتس» تشطب ثمن عقار السعدية!

ضمن الخطوات الإسرائيلية المتخذة في منع الكشف عن مسربي العقارات في القدس المحتلة، حذفت صحيفة «هآرتس» فقرات من تقرير نشرته في التاسع من الشهر الجاري، بالنسخة الإنكليزية، وفيه أن «عقار السعدية» بيع للمستوطنين بـ17 مليون دولار، وكذلك الحال مع النسخة العبرية، كما حذفت جملاً أخرى تتعلق بتفاصيل البيع وبعض الأسماء.
ووفق تقرير آخر للصحيفة نفسها قبل يومين، أشار معدّ هذه التقارير نير حسون، إلى أن شرطة الاحتلال طلبت منع النشر في القضية، لكنه لم يشر إلى الحذف الذي تمت ملاحظته خلال الترجمة ومراجعة النص الأصلي، واكتفى بالقول إن العطاري اشترى العقار على ما يبدو بـ2.5 مليون. وفي عقد البيع الثاني، بين المشتري خالد العطاري وصاحب العقار أديب جودة، الذي وصل «الأخبار» نسخة عنه، كان مشطوباً ثمن العقار من المصدر، علماً أن عقد البيع الأول الذي عرضته «الأخبار» في تحقيقها في أيار/ مايو 2016 كان يشير إلى مبلغ 2.5 مليون دولار، دفع المشتري الأول فادي السلامين 1.5 مليون منها، واحتجزت السلطة الفلسطينية مليوناً.