تداعيات جريمة قتل جمال خاشقجي الاقتصادية هي الأكثر إيلاماً لولي العهد محمد بن سلمان حتى الآن. حجم تهور «رجل الإصلاحات»، بدا في التوقيت، قبل ثلاثة أسابيع من مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار» في الرياض اليوم، الذي يرعاه للعام الثاني على التوالي. تفاصيل الجريمة الفظيعة، التي عملت تركيا على إذكاء نارها، أفسدت مناخ الاستثمار مع الرياض، حتى خرج الاقتصاد عن طور السياسة، بانسحاب أهمّ المستثمرين الكبار والمؤسسات التي أبرمت شراكات مع صندوق الاستثمارات العامة الذي يرأسه ابن سلمان، بسبب خسائر بالمليارات طاولتها من دماء خاشقجي، فلم يبقَ من المؤتمر المعدّلة برامجه هذا العام، غير الشكل.رغم أن الكرة في السياسة لا تزال في ملعب حلفاء الرياض، لكنها اقتصادياً باتت مرهونة لميزان الربح والخسارة، الذي وحده يفرض قواعد اللعبة. لعل أدق توصيف للحالة التي تعيشها السعودية اليوم، هو توصيف تلك التي حذّر منها خاشقجي بنفسه، في أحد مقالاته في صحيفة «واشنطن بوست»: «ببساطة، فإن السعودية لا يمكنها تحمل تبعة استعداء أي قطاعات أخرى من المجتمع الدولي»، مشيراً إلى أنه «إذا خشي المديرون التنفيذيون للشركات من ردود أفعال عنيفة على أيّ انتقادات محتملة تتعلق باستثماراتهم، فإن الرؤية الجديدة للسعودية ستكون في خطر محدق». قال خاشقجي كلمته ومشى، تاركاً خلفه سيلاً من الأعداء الاقتصاديين لابن سلمان معظمهم من دول حليفة، ولا سيما الولايات المتحدة وأوروبا، ليصطفوا إلى جانب دول أخرى ككندا وألمانيا والسويد والنرويج والجيران الخليجيين قطر والكويت وعمان.

ضربة قاضية
رغم الضربات المتتالية لطموحات ابن سلمان، جاءت وحشية جريمة خاشقجي وصداها لتقصم ظهر البعير.
ذلك بدا في كر سُبحة المقاطعة الدولية لمؤتمر «دافوس في الصحراء» (تبرّأ منه «دافوس» السويسري)، الذي ينظمه صندوق الاستثمارات العامة السعودي (سيادي)، بإعلان كبار المسؤولين مقاطعته، بمن فيهم وزير الخزانة الأميركية، ستيفن منوتشين، ووزراء من بريطانيا وفرنسا وهولندا وأوستراليا، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ورؤساء مؤسسات ومستثمرون كبار ووسائل إعلام وصحافيون كانوا مدعوين لإدارة جلساته. لكن أحدث المُنسحبين، مجموعة «سوفت بنك»، عملاق التكنولوجيا اليابانية، أمس، ما مثّل ضربة قاضية للمؤتمر، قبل يوم من انطلاقته. فالمجموعة اليابانية للاتصالات والتقنية، التي تدير «صندوق رؤية سوفت بنك» (سعودي ياباني)، تمثل إحدى أهم الشراكات الاستراتيجية التي سعى إليها ابن سلمان، للاستثمار في شركات «وادي سيليكون» الأميركي. إذ يضم الصندوق شركات مثل «آبل» و«كوالكوم» و«فوكسكون» و«شارب». انسحاب «سوفت بنك» يؤكد أن لا «صندوق رؤية» جديداً هذا العام، كما كان قد أعلن ابن سلمان في مقابلته الأخيرة مع وكالة «بلومبيرغ»، بأنّ الصندوق السعودي السيادي سيقدم 45 ملياراً إضافية هذا العام، على غرار العام الماضي (نحو 50٪ من رأس المال الملتزم). قرار الاستغناء عن الشراكة مع الرياض، جاء بعد خسائر لحقت بـ«صندوق رؤية»، منذ إعلان اختفاء خاشقجي، قدّرت وفق صحيفة «فايننشال تايمز»، بنحو 20 مليار دولار، إثر تراجع أسعار أسهمها نحو 7 % في بورصة طوكيو، بسبب مخاوف المستثمرين من مستقبلها بسبب شراكتها مع الرياض. وجاء ذلك، بعد اهتزاز ثقتها بابن سلمان، بعد أن علّقت الرياض خطة إنشاء أكبر مشروع لتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية في العالم، أحد أهم المشاريع العملاقة مع «سوفت بنك»، بتكلفة 200 مليار دولار، في أيلول/ سبتمبر الماضي.
من المحتمل أن ينهي تعثّر الصندوق السعودي الياباني، البالغ حجمه 93 مليار دولار، شراكات مع أكثر من 25 شركة أميركية استثمر فيها منذ إنشائه، علماً أن الصندوق مثّل أهمية كبرى للرئيس دونالد ترامب الذي كان قد اصطحب في زيارته للرياض العام الماضي، رئيس المجموعة ماسايوشي سون (أغنى رجل في اليابان)، حيث خرج بأكبر صندوق استثمار مباشر في العالم، على أن يضع جزءاً كبيراً منه في الولايات المتحدة، وهو ما حصل بالفعل. لكن على إثر جريمة قتل خاشقجي، تعثّر أكبر استثمار للصندوق بانسحاب شركة «أوبر» (يمتلك منها حصة تبلغ 9 مليارات دولار)، من مؤتمر اليوم، وفق ما أعلن الرئيس التنفيذي دارا خسروشاهي، على الرغم من أن صندوق الاستثمارات السعودي، يمتلك بشكل منفصل، 5٪ من أسهم الشركة، بقيمة 3.5 مليارات دولار.
ارتأت «أوبر» الاستغناء عن أموال ابن سلمان، رغم الخسائر المحتملة جراء مقاطعتها في السعودية والبحرين، كذلك دعا وزير خارجية الأخيرة، خالد بن أحمد، ما يعكس مخاوف هذه الشركات الناشئة، من أي شراكة مع بلد يحكمها «متهور». وعلى غرار «أوبر»، من المحتمل أن تنهي شركات كبرى استثمر فيها «صندوق رؤية» قريباً، كـ«أرم هولدينغز» و«نفيديا» و«جنرال موتورز كروز»، للسيارات الإلكترونية، و«وي ورك».

مستقبل على المحك
أمام الانسحابات الغربية، ثمة مفارقة، أن الدول التي تقف على الضفة المقابلة للرياض وحلفائها سياسياً، مثل الصين وروسيا وباكستان، تسعى إلى استغلال موقف ابن سلمان الضعيف لاستمالته نحو ضخ مشاريع واستثمارات فيها، إذ لم تبد الشركات في الصين حتى الآن، أي بادرة انسحاب، فيما تعتزم موسكو إرسال وفد من 30 من قادة ورواد الأعمال البارزين، وفق ما أعلن «صندوق الاستثمار المباشر الروسي» (رسمي). أما باكستان، فسيمثّلها رئيس الوزراء، عمران خان، بنفسه، في إطار سعيه المعلن للحصول على دعم سعودي في ظل تراجع العملة الباكستانية، ولحثّ المملكة على الموافقة على دعوته لها خلال زيارته للسعودية الشهر الماضي، إلى أن تصبح الشريك الثالث لبلاده في المشروع الاقتصادي الذي دشنته بشراكة صينية، في إطار المبادرة الاقتصادية الصينية لدول الحزام والجوار، لتأسيس ممر تجاري، الذي يمثل أهمية كبرى للصين أيضاً.
هروب الحلفاء واقتراب الخصوم اقتصادياً، يشيان بأن مستقبل ابن سلمان بات على المحك. إذ يعلم المستثمرون أن ضمان الاستثمار في السعودية بات رهن مستقبل شخص هو «الملك غير المنصّب»، الذي صار يوصف بـ«المجرم» و«المجنون». لكن ذلك ما كان ليحصل، لولا سياسة الضوء الأخضر الأميركي، التي انتهجها ترامب منذ توليه الرئاسة، بخلاف أسلافه الذين لم يسمحوا تاريخياً بخروج أجنحة أساسية من خط السباق إلى العرش لضمان الانتقال السلس للحكم، خصوصاً أن سيناريو «الشجار» السعودي، لم يُسعف ترامب الباحث عن «مخرج» يحفظ مصالحه السياسية والاقتصادية، وسط تنامي ضغوط أعضاء الكونغرس لكشف حقيقة مقتل خاشقجي، ومطالبة بعضهم بتغيير الحاكم الفعلي للمملكة، في وقت حساس، بالتزامن مع الانتخابات النصفية للكونغرس.