الضباب الخفيف ينسلّ بين سنديان وشربين القنيطرة المحرّرة. لكنّ شمس الرابعة عصراً، تعرف طريقها إلى التراب الرطب من غرب تل أبو الندّى المحتل. هناك فوق المرتفع، حفنة من الغرباء المحتلّين يتمترسون خلف السواتر والتحصينات الإسمنتية مع مئات أجهزة التجسّس والتنصّت. يراقبون خائفين دبيب النمل والجنود السوريين، أهل الأرض، على بعد مئات الأمتار خلف الأسلاك الشائكة.تمسّ مدينة القنيطرة زائرها سحراً، فتُسكِن فيه الرهبة والحيرة. بيوت ومعالم وكنائس ومساجد وصالة سينما من الركام المكوّم، ومع ذلك تنبض الحجارة المُخْضَرَّة بالحياة. المدينة احتُلَت مرتّين، ثمّ تحرّرت مرتين، لتكون شاهدةً بشهادتين: على تطرّف وحقد عصابات جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتطرّف وحقد جيش الاحتلال التكفيري. وما لم تدمّره إسرائيل عن غير قصد، دمّرته عن قصد جماعات المعارضة السورية المسلّحة و«جبهة النصرة» التي ارتبطت بها على كامل شريط التماس مع الجولان المحتل، في قرى الحريّة وأوفاميا والحميدية والصمدانيتين، وصولاً إلى قرى حوض اليرموك.
على بعد دقائق من ساحة القنيطرة، تجثم بوابة سوداء حديدية ثقيلة على صدر الأرض، وخلفها علم الاحتلال الإسرائيلي. هنا معبر القنيطرة، الحدّ الفاصل بين سوريا المحرّرة وتلك المحتلّة من هضبة الجولان إلى طبريا، ومن طبريا حتى أقاصي النقب والبحر الأحمر. قرب البوابة السوداء، لا تزال اللافتات والصور التي رفعها السوريون صباح أول من أمس خلال احتفال إعادة افتتاح المعبر بعد إغلاق دام ست سنوات، معلّقة على أعمدة الخيمة البلاستيكية، بالعربية والإنكليزية. على اليسار، لوحة تذكارية بالعربية والروسية تؤرّخ ذكرى افتتاح المعبر وإلى جانبها صورة للرئيس بشار الأسد ببزته العسكرية المرقّطة. وبين البوابة السورية وبوابّة «السجن» الإسرائيلي الكبير، يقبع مركز لقوات «الأندوف»، التي استعادت انتشارها على كامل النقاط في المنطقة المنزوعة السلاح. ليكون «الأمميون» بذلك، شاهداً آخر على الاحتلال، وعلى اعتراف العالم بشرعية الدولة السورية، التي حاول أعداء سوريا انتزاعها طوال سنوات الحرب الماضية.

«أهون الشرّين»
«الأندوف»، ومكتب الهدنة وعودة الجيش السوري إلى حدود الجولان المحتلّ ثمّ افتتاح المعبر، كلّها دلائل على سيناريو، كانت إسرائيل تحلم بعكسه. طوال السنوات الماضية، راهنت إسرائيل على إسقاط الدولة السورية وعلى خسارة السوريين الأرض لمصلحة الإرهابيين. كان لا بدّ بالنسبة لإسرائيل أن تنهار سوريا، ليسقط نموذج الدولة الوطنية ويربح نموذج الدولة اليهودية العنصرية، وأشباهها. ويصبح الجولان المحتلّ تحصيل حاصل بالنسبة لإسرائيل، وتنال الاعتراف الأميركي بـ«السيادة الإسرائيلية» على الهضبة، فيكتمل عقد الاستسلام العربي.
قرّر أهالي الجولان مقاطعة الانتخابات المفروضة عليهم وإسقاط أي نتائج تصدر عنها


غير أن السوريين بصمودهم وعزيمتهم، ودعم حلفائهم من بيروت وطهران إلى موسكو، فاجأوا إسرائيل بخيار من اثنين: إمّا عودة قواعد الاشتباك القديمة التي أرساها الرئيس الراحل حافظ الأسد في اتفاقية 1974، وإما حرب استنزاف طويلة على الجبهة السورية. وبكلا الحالتين، فالحرب لا تزال قائمة، حتى يسقط أحد النموذجين. اختارت إسرائيل أهون «الشّرين»: الاعتراف بسوريا القويّة، مع هدنة... تؤسس لحروب مستقبلية.

«انتفاضة» ضد انتخابات التهويد
تشبه سعادة السوريين أبناء قرى الجولان المحتل مجدل شمس ومسعدة وعين قنيا وبقعاثا بافتتاح معبر القنيطرة، فرح الأطفال بالماء والبالغين بالحب. هؤلاء الـ23 ألفاً، على رغم الدعاية الإسرائيلية وعملاء الاحتلال عن قرب انهيار سوريا وضرورة قبول الهوية الإسرائيلية، لم يضعفوا وتمسكّوا بالهويّة السورية. الآن، كل المحاولات الإسرائيلية والجولات الدبلوماسية التي يقوم بها ممثلو الاحتلال في أوروبا ومشاريع الكونغرس الأميركي لمنح إسرائيل اعترافاً بـ«السيادة» على الجولان تسقط أمام أول زيارة يقوم بها وفد من مشايخ الجولان إلى سوريا في أقرب وقت ممكن. «سوريا الأم والأب والابن» يقول الشيخ قاسم الصفدي أحد سكان مسعدة المحتلّة لـ«الأخبار». قبل إقفال المعبر، كان طلاب الجولان ينتقلون لتلقّي التعليم في الجامعات السورية التي خرّجت أكثر من 1200 طبيب جولاني، ومن المتوّقع أن يعود ما بين 120 إلى 200 طالب في العام المقبل للدراسة في دمشق. ينتظر الجولانيون أن يعود تفاحهم إلى الأسواق السورية بعد أن فُرض عليهم توريده إلى الداخل الفلسطيني المحتل بأسعار زهيدة. فسعر «ميخال» (500 كيلوغرام بالعبرية) التفاح، كان يباع في الداخل بأقل من 400 «شيكل» أي حوالى 100 دولار أميركي، بينما يكلّف المزارع الجولاني حوالى 200 دولار، فيما سيعود نصف طن التفاح إلى الأسواق السورية بما لا يقلّ عن 400 دولار أميركي. ومثل الشيخ قاسم، يقول الصحافي بسّام الصفدي إن «عودة المعبر تعني عودة الحياة بما يساعد على صمودنا بوجه سياسيات الاحتلال، الهادفة إلى إفقارهم وإجبارهم على الانخراط في دورة الاحتلال الاقتصادية وسلخهم عن هويتهم».
ولا يكتفي الاحتلال بفرض السياسات الاقتصادية ليتخلّى الجولانيون عن سوريتهم وحيازة الهويّة الإسرائيلية. إذ قرّر العام الماضي فرض انتخابات الإدارة المحليّة في الجولان بالتزامن مع فلسطين المحتلة في نهاية الشهر الجاري. وبالتالي، ما لم ينجح العدو في انتزاعه عبر فرض الهوية، يريد انتزاعه عبر الانتخابات المحليّة ليحصد اعترافاً من الجولانيين بشرعيته يقدّمه لدول الغرب للاعتراف بـ«السيادة». غير أن الشيخ رفيق إبراهيم، ابن قرية مجدل شمس، يجزم لـ«الأخبار» بأن «تصدينا للانتخابات سوف ينجح وتسقط الانتخابات في الجولان». وكما يقول كل الذين اتصلت بهم «الأخبار» في الجولان المحتل، فإن قبول 3 إلى 5% من الجولانيين للانتخابات لأسباب عدة، يقابله رفض الغالبية الساحقة من الأهالي. وقد تجلّى الأمر باجتماع عام منتصف الشهر الماضي في مقام اليعفوري، وصدر قرار عام بمقاطعة الانتخابات ومقاطعة من يشارك بها، حياتياً ودينياً. ليس هذا فحسب، تؤكّد المصادر أن اجتماعات عقدت في القرى الأربع خلال الأسبوع الماضي، وتقرّر بها الاجتماع بالذين ترشّحوا من الجولانيين وثنيهم عن الترشّح، كما حصل في مسعدة، وأن القرار بأن يتمّ الاعتراض يوم الانتخابات والاعتصام أمام مراكز الاقتراع وتشكيل ما يشبه العصيان المدني أو الانتفاضة حتى إسقاط الانتخابات.



من القنيطرة إلى الجليل


قرب بلدة بقعاثا، كان رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس المطران عطا الله حنا، يقف متأملاً العلم السوري المرتفع على معبر مدينة القنيطرة المحرّرة، متأمّلاً إياه لبعض الوقت، في كلّ مرة كان يأتي من مدينة القدس لزيارة الجولان السوري المحتل. يقول المطران حنا لـ«الأخبار»، إنه كان يراقب من بعيد الكنائس المهدّمة والجوامع والبيوت ليشاهد همجية الاحتلال الإسرائيلي. ويكشف حنّا لـ«الأخبار» أن مقتنيات كنيسة الروم الأرثوذكس في القنيطرة، من الأيقونات والأشياء المقدّسة، نُقلت إلى كنيسة بلدة الرامة، بلدته، في الجليل الأعلى، قبل دخول قوات العدو الإسرائيلي إلى القنيطرة وإحراق الكنيسة وتهديم المدينة. «هذه المقتنيات في عهدة كنيسة الرامة، وستعود في يوم من الأيام إلى كنيستها الأصلية بعد زوال الاحتلال».