المصير المأسوي للكاتب والصحافي السعودي جمال خاشقجي يختصر محنة الليبراليين العرب مع النظام الليبرالي الدولي، أي منظومة الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، وخيباتهم المتكررة من مزاعمه حول دعمه لجهودهم ومساعيهم من أجل الإصلاح الديمقراطي في البلدان العربية. سيكون لقضية خاشقجي التي كشفت عن شراسة منفلتة من عقالها لقمع وحتى تصفية أي معارض أو مجرد ناقد، تداعيات سلبية أكيدة على صورة ولي العهد «الشاب» محمد بن سلمان، وعلى صدقية ادعاءاته الاصلاحية والتجديدية. الملايين التي أنفقت لتظهير تلك الصورة وتعزيز الصدقية أمام الرأي العام الغربي ذهبت هباءً منثوراً. لكن تبعات القضية على العلاقات الاستراتيجية الأميركية - السعودية خصوصاً، والغربية - السعودية عموماً، ستكون محدودة جداً أو معدومة. قد يستخدمها الرئيس دونالد ترامب بشكل آني من أجل المزيد من الابتزاز المالي للمملكة، وهو جزء من سياسته المعلنة حيالها منذ وصوله إلى السلطة، وستنصاع عائلتها الحاكمة للابتزاز كما فعلت باستمرار. أما أية رهانات عن تدخّلات أو ضغوط غربية على المملكة، أو أي من الأنظمة الحليفة، من أجل الإصلاح، فهي من ضروب الأوهام الكثيرة التي غذتها المثالية المغفلة السائدة بين النخب الليبرالية العربية. الأنظمة والطغم الحاكمة في الدول العربية الحليفة للغرب هي بمثابة «الكنز الاستراتيجي» بالنسبة إليه، لن يتخلى عنها إلا مرغماً. لكن هذا حديث آخر.
عن المثالية المغفلة والجهادي الذي أضحى ديمقراطياً
أول من استخدم مفهوم المثالية المغفلة هو المحامي والمفكر شبلي الملاط في مقابلة أجراها مع فضائية LBC اللبنانية بضع سنوات بعد الغزو الأميركي للعراق واتضاح نتائجه الكارثية عليه. وللتذكير، فإن ملاط شأنه شأن الكثيرين من المثقفين العرب كصادق جلال العظم وفالح عبد الجبار وعصام خفاجي وجهاد الزين وحازم صاغية وآخرين، راهنوا على هذا الغزو باعتباره كفيلاً «بتحريك المياه الآسنة في المنطقة»، والكلام للعظم، وبإطلاق ديناميات تغيير سياسية واجتماعية في دول المنطقة، لأن «المشروع الأميركي (مشروع إعادة صياغة الشرق الأوسط) هو المشروع الثوري الوحيد» حسب جهاد الزين. النتائج الكارثية لهذا الغزو لم تثن ملاط عن الإصرار، في مقابلته المذكورة، على أن الخيار الوحيد للديمقراطيين العرب مع الولايات المتحدة، القوة التي لا بد منها من أجل إنجاح أي عملية تغيير، هو التعامل معها انطلاقاً من نوع من المثالية المغفلة ومفادها مطالبتها بالإيفاء بوعودها لشعوب المنطقة بالضغط على الأنظمة لإنجاز التحوّل الديمقراطي المنشود. لم يصمد هذا الخطاب أمام تكذيب الواقع له وانهيار المشروع الأميركي بفضل مقاومة شعوب المنطقة له وفي مقدمتها مقاومة الشعب العراقي والشعبين اللبناني والفلسطيني. وبدا لفترة أن الرهان على التدخلات الغربية العسكرية و/أو السياسية من أجل الإصلاح الداخلي قد أفلس تماماً إلا أن الهبّات والانتفاضات الشعبية التي بدأت من تونس واجتاحت دول المنطقة، أحيته مجدداً في الأوساط إياها وكسب تأييد قوى سياسية منظمة اعتبرت أنها أمام فرصة سانحة للوصول إلى السلطة. هذه الأطراف، وهي من خلفيات فكرية وعقائدية مختلفة وأحياناً متناقضة، اعتقدت جميعها بإمكانية فصل التغيير الديمقراطي الداخلي عن السياقات الجيوسياسية واستراتيجيات القوى الغربية وكسب تأييد هذه الأخيرة عبر تقديم سلسلة تنازلات مبدئية في القضايا القومية (القبول باتفاقية كامب ديفيد، رفض قانون تجريم التطبيع، الحفاظ على علاقات التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة) وفي قضايا الاستقلال الاقتصادي وإعادة توزيع الثروة (التزام السياسات النيوليبرالية وبوصفات المؤسسات الاقتصادية الدولية). وقد تجاوزت هذه القوى الكثير من المحرمات التي كانت محط إجماع بين شعوب الأمة عندما أيّدت التدخّل الأطلسي في ليبيا ودعت إلى تدخّل شبيه في سوريا. وقد كان لجمال خاشقجي موقف واضح في هذا المجال، إذ اعتبر في مقابلة مع LBC في بداية الحرب في سوريا أنّ على المعارضة السورية الصبر حتى تقع مجزرة كتلك التي وقعت في مدينة سريبرينيتسا في البوسنة، والتي ارتكبها الصرب خلال الحرب اليوغوسلافية وبررت تدخلاً عسكرياً غربياً ضدهم، لكي يهبّ الغرب لنجدتها.
لم يبدأ جمال خاشقجي حياته كداعية إلى التغيير الديمقراطي في السعودية أو البلدان العربية. هو كان رفيق درب للظاهرة الجهادية منذ انطلاقتها في أفغانستان، وعمل تحت إشراف الشيخ عبد الله عزام في مكتب الخدمات الإعلامية للمجاهدين الأفغان، وكان مراسلاً للمجلة الصادرة عنه «صدى الجهاد». بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان وانفجار الصراعات الداخلية بين فصائل المجاهدين، عاد، كالكثير من الشبان السعوديين والخليجيين والعرب إلى بلاده، وأصبح صحافياً في جريدة الحياة قبل انتقاله إلى مؤسسات إعلامية أخرى. لم يكن خاشقجي معارضاً للحكم السعودي، بل ربطته علاقات وثيقة ببعض أقطابه السابقين، كالأمير تركي الفيصل، الرئيس الأسبق للاستخبارات السعودية وعرّاب الجيل الأول من الجهاديين العرب، وأيّد التوجهات السياسية العامة الداخلية والخارجية للملكة، بما فيها التحالف مع الولايات المتحدة، لكن مقالاته ومداخلاته لم تخل أحياناً من بعض النقد الخفيف واللطيف. هذا يقطع مثلاً مع حماسته الكبيرة للجماعات المسلحة الجزائرية خلال الحرب الأهلية التي أدمت هذا البلد. بعد الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر ووصول الإخوان المسلمين إلى السلطة عبر الانتخابات، جهر خاشقجي بتعاطفه معهم وتعامل معهم في كتاباته، ومنها كتابه «الربيع العربي، زمن الإخوان»، من موقع الأخ الكبير الداعم والناصح والناقد أحياناً، على الرغم من الموقف السعودي المعادي للإخوان منذ أكثر من عقدين. وظن خاشقجي، عندما أصبح سلمان بن عبد العزيز ملكاً، أنّ ثمة إمكانية لعقد مصالحة تاريخية بين الطرفين، أي المملكة والإخوان، لمواجهة الأعداء المشتركين، وفي مقدمتهم إيران، ولتستعيد المملكة دورها كعراب للحركات الإسلامية المعتدلة وكوسيط بينها وبين أنظمة حليفة كمصر مثلاً. وكان خاشقجي قبل ذلك التاريخ قد شاطر قناعة انتشرت بين أطراف سياسية مؤيدة أو معادية للإخوان ومتناقضة في ما بينها تفترض أن الولايات المتحدة والغرب لن يعارضا وصول وبقاء الإخوان في السلطة إن احترموا مجموعة الالتزامات السياسية والاقتصادية التي احترمها من سبقهم في الحكم. كتاب جديد صدر في آب الماضي في الولايات المتحدة لكبير المراسلين الدوليين في «نيويورك تايمز»، دايفيد كيركباتريك، بعنوان «بين أيدي العسكر، الحرية والفوضى في مصر والشرق الأوسط»، يقدم معطيات وافية تضعف صدقية هذه الفرضية. يستند كيركباتريك إلى مقابلات عديدة أجراها مع أعضاء في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما وفي مجلس الأمن القومي تظهر أن غالبية الإدارة والمجلس كانت معادية للإخوان، وأن اللوبي الإسرائيلي عمل بدأب للتحريض عليهم. المعطى الأهم الذي يكشفه الكتاب، أن الاستخبارات الأميركية علمت بالاستعدادات الجارية للانقلاب عليهم، لكنها لم تحرّك ساكناً. وبمعزل عن الكتاب، يؤكد سلوك إدارة أوباما بعد إزاحة الإخوان أنها لم تكترث بمصيرهم، وأنها لم تعتبرهم حليفاً يعتمد عليه. وفي غالب الظن أنّ قيادة الاخوان اعتقدت عكس ذلك بمجرد موافقة الإدارة الأميركية على التواصل الرسمي معها بعد الانتفاضة الشعبية في مصر وساهم الكثير من الإخوانيين السابقين أو المعتدلين في ترسيخ هذا الاعتقاد في ذهنها. الدولة العميقة في الولايات المتحدة تخشى التغيير في منطقتنا لما يحمله من مخاطر غير محسوبة وتفضل تقليدياً «الشيطان الذي نعرف على ذلك الذي لا نعرف»، كما يقول المثل الأميركي. وقد دفع من يعتقد عكس ذلك أثماناً باهظة، ومنهم خاشقجي الذي تصور أن لجوءه إلى الولايات المتحدة وكتابته في «واشنطن بوست» ممكن أن يحمياه من إجرام ولي عهد طموح.