تونس | جاء احتفال التونسيين بيوم 13 آب، وهو العيد الوطني للمرأة، مختلفاً هذه المرة، علماً أنه كان تاريخ تبني «مجلة الأحوال الشخصية» سنة استقلال البلاد (1956). في العام الماضي، وتكريساً لرمزية اليوم والحدث، أعلن رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، تشكيل لجنة للعمل على صياغة مقترحات لتطوير التشريعات الخاصة بالحريات الفردية والمساواة. وقبل شهرين تقريباً قدمت اللجنة، التي تترأسها النائبة البرلمانية (عن حركة «نداء تونس») والمناضلة النسوية بشرى بالحاج حميدة، تقريرها إلى السبسي، ثم نشرته حتى ينال حقه من النقاش العمومي. لكن بسرعة، وعلى غرار جميع القضايا الهوياتية، تحول النقاش إلى تخندق ثنائي وصراع حديّ بين المدافعين عن التقرير والرافضين له، لم يخلُ من الإهانات والتخوين وحتى التكفير.
الحريات وجدل الهوية
تفجر هذا الجدل مع اللحظة التأسيسية للجمهورية الثانية في أروقة «المجلس التأسيسي» الذي عهد إليه كتابة دستور جديد للبلاد (أنهى أعماله عام 2014). حينذاك ارتكز الخلاف حول الفصل الأول من الدستور، وبخاصة الجزء الذي يتناول موقع الدين في الدولة. مع ذلك، انتهى الأمر بالتوافق بين الجميع على إبقاء الفصل بصيغته الواردة في دستور 1959، أي «تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها»، كما بقي الأمر محصوراً في نقاش نظري.
لم يتفجر الأمر إلا مع نقاش تنقيح مرسوم يمنع زواج المرأة التونسية بأجنبي لا يدين بالإسلام. لكن سرعان ما وقع تجاوز الملف وتغيير المرسوم من دون جدل يذكر، ربما لوجود اجتهادات في الموضوع من داخل دائرة الفقهاء وكذلك لارتباطه بفئة ضيقة من الناس. وعلى عكس ذلك، مسّ تقرير «لجنة الحريات الفردية والمساواة» مواضيع أكثر حساسية ويعتبر أغلب رجال الدين المسلمين أنها لا تقبل الاجتهاد. وتشمل مروحة مقترحات اللجنة في هذا الصدد: إقرار المساواة في الميراث بين الجنسين، وإلغاء عدة المرأة، وإنهاء تجريم المثلية الجنسية، من بين مسائل أخرى أقل إثارة للجدل.
من مقترحات اللجنة: المساواة في الميراث وإلغاء عدّة المرأة وإنهاء تجريم المثلية


رداً على ذلك، رفع المتظاهرون أمام البرلمان يوم السبت شعارات رأت أن مقترحات اللجنة تمس بآيات قرآنية قطعية الدلالة، وهي بذلك تمثل اعتداء على جوهر الدين وتخالف الفصل الأول من الدستور. أما المدافعون، فيرون أن المقترحات بحد ذاتها تكريس لمبدأ المساواة التامة الوارد في الدستور الذي ألزم الدولة تطبيقه. جراء ذلك، قال رئيس الجمهورية أمس إن تقرير اللجنة «ليس قانوناً، بل هو مقترحات... فيها أخذ ورد»، رامياً الكرة في ملعب البرلمان.

فخّ سياسيّ؟
يعدد التقرير ما أنجزته تونس في المضمار الحقوقي منذ «عهد الأمان» في القرن التاسع عشر، وصولاً إلى قانون 2017 الخاص بالقضاء على العنف ضد المرأة، ومروراً بمجلة الأحوال الشخصية وتنقيحاتها، وهو يرسم لذلك خطاً تصاعدياً ويضع نفسه كحتمية تاريخية في سياق التطور التصاعدي للتشريعات التونسية.
فمن الناحية السياسية، ترتبط نزعة «الاستثناء التونسي» بتوجه رئيس الجمهورية الأيديولوجي، لجهة تبنيه خطّ زعيمه الحبيب بورقيبة، أول رئيس للجمهورية، و«محرر المرأة» كما يحب أنصاره وصفه. ويرى قائد السبسي أن عليه الاستمرار في ما بدأه سلفه الأيديولوجي، بالمضي قدماً في تطوير التشريعات متسلحاً بجرأة كان يفتقدها بورقيبة نفسه، لكن يتحتم على السبسي مواجهة معارضة أشرس هذه المرة.
جراء ذلك، تتجه جميع الأنظار الآن صوب مواقف الأحزاب السياسية من التقرير، مع تركيز خاص على «حركة النهضة» ذات الخلفية الإسلامية. ومع أن الأخيرة ما زالت تلتزم الصمت، حتى أنها لم تشارك في مسيرة التنديد أمام البرلمان، فإنه يُتوقع أن تعبر عن آرائها المحافظة بهدوء داخل قبة البرلمان (أصدرت كتلة الحركة أول من أمس بياناً يندد بـ«الحملة الظالمة... (و)استهداف بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي» لها).
كذلك، توجد خشية، عبّر عنها بيان «الجبهة الشعبية» اليسارية، من العودة بالبلاد إلى مربع الصراع الهوياتي والاستقطاب الثنائي بين العلمانيين والإسلاميين على حساب البرامج الاقتصادية والاجتماعية، وللتغطية على فشل الائتلاف الحكومي بين «النهضة» و«نداء تونس». وتتزايد مخاوف تكرار سيناريو انتخابات 2014 مع اقتراب موعد الانتخابات المبرمجة العام المقبل، إذ فازت «نداء تونس» آنذاك بالانتخابات التشريعية وفاز رئيسها بالانتخابات الرئاسية بعد دعوتها إلى ما عرف بـ«التصويت المفيد»، أي الاكتفاء بها كممثل عن العلمانيين والتيار الحداثي، وهو ما أدى إلى تراجع عدد ناخبي بقية الأحزاب العلمانية واليسارية.