يبدو الازدحامُ كبيراً في نقطة المصنع الحدوديّة في مساء يوم الثلاثاء السابع من شهر آب من عام 2018. لم يكن الأمرُ ليُعدّ مستغرباً، لولا أنّ الكثافة الأكبر كانت في عدد القادمين من لبنان إلى سوريا، خلافاً لما كانت عليه الحال في معظم سنوات الحرب. نتأمّل بدهشة عشر حافلات متوسطة الحجم تغصّ بالعوائل، وتتدلّى منها عشرات الحقائب. «كلّهم قادمون من السعوديّة» يقول محمد القابوني، أحد سائقي سيارات الأجرة على خط بيروت، دمشق. ويضيف «الوضع على هذا المنوال منذ شهر أو أكثر. يومياً هناك عشراتُ العائلات القادمة بشكل نهائي إلى سوريا». دارت عجلة هذه «الهجرة العكسية»، بعد أن بدأت المملكة تطبيق قرارٍ بمضاعفة ضريبة الإقامة الشهرية من 100 ريال إلى 200 ريال سعودي شهرياً (حوالى 53 دولاراً) لكل فرد من أفراد العائلات «الوافدة». ومن المقرّر أن تتواصل الزيادة باطّراد، إلى أن تصبح الضريبة 400 ريال (حوالى 106 دولارات) شهرياً لكل فرد من العائلة بحلول عام 2020.ينهي محمّد (52 عاماً) إجراءات دخول سيارته الخاصة، فيما الحافلات العامّة تواصل اصطفافها. ويقول مستعيناً بالآلة الحاسبة في هاتفه الخلوي، «إذا كان عدد أفراد عائلة سوريّة خمسة أشخاص، فإنها ستدفع ضريبة شهريّة مقدارها 1000 ريال، تُضاف إليها تكاليف الإقامة السنوية التي قد تبلغ 15 ألف ريال. ما يعني أنّ العائلة ستدفع سنويّاً مبلغاً يتجاوز 28 ألف ريال (حوالى 7500 دولار)». ويُعدّ هذا الرقم باهظاً، نظراً إلى أنّ رب العائلة يكون على الأغلب هو الفرد الوحيد الذي يعمل. ويُقدّر متوسط دخل السوريين في المملكة بحوالى 7000 ريال شهريّاً (حوالى 1800 دولار).

خيارات السوريين؟
تتحدّث وزارة الخارجية السعودية باستمرار عن مليوني سوري مقيمٍ داخل أسوارها، الرقم الذي تشكّك فيه جهات أهلية وأُممية، علماً بأن المملكة لم تستقبل أيّ لاجئ سوري منذ بداية الأزمة في عام 2011، واقتصرت «مساعدتها» على تمديد إقامات السوريين الموجودين على أراضيها قبل الحرب، أو منح تأشيرات إضافية «بشقّ الأنفس» لعدد من الوافدين السوريين الجدد (آلافٌ على الأكثر).
يستعدّ الطبيب نائل علوان لمغادرة السعودية مع عائلته عائداً إلى سوريا. حزم أمتعته، وودّع أصدقاءه. يقول الطبيب المتخصّص في تجميل الأسنان لـ«الأخبار» إنّ «الخيارات لم تعد كثيرة. إما العودة إلى سوريا، أو التوجّه إلى واحدة من الدول القليلة جدّاً التي يُسمح لنا بدخولها بلا تأشيرة». سافر الطبيب الستيني إلى السعودية قبل عشرين عاماً، وترعرع أبناؤه فيها، لكن «فاتورة البقاء أمست باهظة» ولا يقدر على تحمّلها. يقول «تخيّل أنّني طبيب ولا أقدر على دفع الضرائب، فكيف بالعمّال العاديين!». ويضيف «في هذه الأيام، معظم العائلات السوريّة المؤلفة من أربعة أشخاص فأكثر تستعد للرحيل». تختلف الخيارات بين عائلة سوريّة وأخرى. فأبواب سوريا المفتوحة في وجه الطبيب الحمصي، مُغلقة في وجه زميله خالد (اسم مستعار). فالأخير يخشى الملاحقات الأمنية التي تنتظره في سوريا بعد أن نشط خلال السنوات الأولى من الحرب في «معارضة نظام الحكم في سوريا، من داخل السعودية».
يشعرُ خالد ابن مدينة درعا بأنّ «الدنيا تضيق عليه». لا مكان يُرسل عائلته إليه سوى السودان، فيما قرّر أن يبقى وحده في السعودية. يقول لـ«الأخبار»: «أستطيع تحمّل نفقات ضرائب شخص واحد، لكن لا يمكنني أن أدفع عن عائلتي المكوّنة من ستة أشخاص (..) سيذهبون إلى السودان، الحياة هناك أرخص، وتُمكنّني من زيارتهم كل فترة».

عدد اللاجئين: صفر!
في عام 2016 تعرّض ولي العهد السعودي (السابق) محمد بن نايف لهجوم عنيف من قبل منصّات إعلامية سورية، إثر كلمة ألقاها أمام «قمة اللجوء والهجرة» التي عُقدت في نيويورك، وقال فيها إن السعودية «استقبلت مليونين ونصف مليون سوري خلال الأزمة السورية». وتؤكد الجمعيات الأهلية السورية في السعودية وخارجها أن «عدد اللاجئين السوريين الذين استقبلتهم السعودية هو صفر»، وأنّ «حوالى 70% من السوريين في السعوديّة مقيمون يدفعون الضرائب دوريّاً، وحوالى 25% هم من مرافقيهم». بينما «لا تتعدّى نسبة المخالفين 4%، أما نسبة المتسللّين فأقل من 1%» بحسب مجموعة «سوريون في السعودية»، وهي أكبر مجموعة متخصصة في شؤون السوريين في المملكة على «فايسبوك». يؤكّد مدير المجموعة، وهو مهندس سوري فضّل عدم الكشف عن اسمه، أن «معظم السوريين الموجودين داخل السعودية دخلوا بموجب عقود قانونية، والكثير منهم يعيش في المملكة سابقاً للأحداث في سوريا، أما المخالفون فقد دخلوا بموجب تأشيرة زيارة، أو تأشيرة حج أو عمرة، وقرّروا البقاء».

سجن كبير!
«إما أن أدفع وأبقى، أو أبقى ولا أعمل، أو أعمل وأخالف، أو أسافر ولا أعود، أو أعود إلى سوريا، أو أقدّم اللجوء في أوروبا». هذه هي دوّامة الخيارات التي وجد جمال رفاعي نفسه في وسطها. سافر جمال (24 عاماً) إلى السعودية قبل عامين فقط، بعد أن استنفد فرص تأجيل خدمته العسكرية الإلزامية. حصل بمساعدة والدته على تأشيرة «مرافق» بعد أن أوقفت السعوديّة نهائيّاً منح تأشيرات العمل للسوريين منذ عام 2012. يقول خريج المعهد التجاري لـ«الأخبار» إنّ «الحصول على تأشيرة صعب للغاية، ومُتاح فقط للأقارب من الدرجة الأولى. السلطات السعودية تقوم بملاحقة المخالفين في شكل دوري». تضيق أنفاس الشاب حين ينظر إلى عدّاد الأيام، ويعلم أن موعد تجديد إقامته أو رحيله قد اقترب. يقول «كنت أخشى موعد تجديد التأجيل (الخدمة العسكرية)، واليوم أخشى موعد تجديد الإقامة، أشعر أن حياتي أمست سجناً كبيراً».