«البيضة تحولت إلى عجة، وأبداً لن تعود بيضة»، مقولة شهيرة لوزير الأمن الإسرائيلي السابق، موشيه يعلون، في وصفه لمآلات الحرب السورية و«استحالة» عودة الدولة السورية إلى بسط سيادتها على أراضيها. في حينه، روّج يعلون وآخرون من المؤسسة الأمنية، لنظرية الدويلات السورية الموزعة جغرافياً ومذهبياً وإثنياً. كان في حينه المستقبل واعداً من ناحية إسرائيل ومفتوحاً على مآل يصبّ في المصلحة الإسرائيلية بشكل كامل: دويلات سورية لإسرائيل، نصيب الأسد فيها لجهة التحالف معها بشكل مشابه أو أكثر لدول الاعتدال العربي، ومن بينها دويلة حزام أمني، تابعة بشكل مطلق لإرادتها السياسية والأمنية.الواقع، وإرادة الدولة السورية وحلفائها، منع المآلات التي رأت تل أبيب أنها مقبلة لا محالة. في ذلك، يمكن استذكار تقدير وزير الأمن الذي سبق يعلون، إيهود باراك، الذي تنبأ بأسابيع قليلة قبل أن تسقط «عائلة الأسد» بشكل نهائي. في ذلك، أكد باراك استحالة الرجوع إلى الوراء، وأن سقوط نظام (الرئيس بشار) الأسد حقيقة واقعة ومقبلة، لا يمكن التنبؤ وتقدير أي مآل مخالف لها.
تبيّن لاحقاً، أن باراك لم يكن يغرد خارج سرب التقديرات السائدة لدى أسرة الاستخبارات الإسرائيلية، على مختلف أنواعها. كان هذا هو الرأي والتقدير السائدين: نتيجة واضحة جداً، بانتظار تحققها من ناحية زمنية لا أكثر.
ثبت فشل تقدير باراك كما فشل من سبقه في المنصب، ومن ورائهما فشلت تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية التي وللإنصاف يمكن القول إنها كانت، حسابياً ومنطقياً، محقة. لكن الدولة السورية والرئيس الأسد وحلفاء سوريا، أثبتوا أن الإرادة والعزم والبصيرة، بإمكانها تثقيل ميزان القوة إلى الحد الذي يفشل التقديرات، مهما كانت علمية ومنطقية.
بعد باراك، وإثبات فشل تقديراته، تحدث بعد أشهر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في حينه، أفيف كوخافي، الذي يتولى الآن منصب نائب رئيس أركان الجيش. كوخافي، كان حذراً أكثر من باراك، رغم أنه لم يتخلّ، بوصفه رأس سلّم شعبة الاستخبارات العسكرية، عن حتمية سقوط الأسد. قال معلقاً: «أتوقع سقوط الأسد ضمن مهلة زمنية تمتد من أشهر قليلة إلى عام ونصف عام. لكن عليكم أن لا تحاسبوني في حال فشلت هذه التقديرات.
تلميح كوخافي إلى ضرورة «المغفرة» لتقديراته في حال تبيُّن خطئها، رغم تأكيده عليها، مرده إلى حجم السخرية التي حظي فيها باراك من قبله، بعدما فشلت تقديراته.
حاليا، تغيّر مبنى ووجهة القتال في الساحة السورية، من حرب على الدولة وتغيير هويتها، أو باتجاه تفتيتها، إلى حرب من نوع آخر. ثبت فشل الحرب الأولى، وها هي سوريا تعود إلى ما كانت عليه، بعزيمة وثبات أكبر من ذي قبل (البيضة عادت بيضة)، إلى حرب من نوع ثان، وتحديداً من ناحية إسرائيل: جهد قائم ومتواصل كي يرضي الطرف الآخر بالعودة إلى قواعد الاشتباك السابقة التي سبقت الحرب الفاشلة على الدولة السورية.
قبل ذلك، كانت اللاءات تطلق بلا سقوف في إسرائيل تجاه سوريا وحلفائها. لا لهذا ولا لذاك، ويمنع هذا ويمنع ذاك، ومن بين اللاءات والمنع، حتمية إخراج الإيرانيين حلفاء الدولة السورية من كل الأراضي السورية. شرط إسرائيلي لا رجعة فيه، وبحسب تعبير قادة العدو «شرط لا يمكن القبول بغيره مهما كانت الأثمان». لكن في نهاية المطاف، ثبت أن التقديرات والشروط الإسرائيلية تجاه الساحة السورية تحديداً يلزمها الكثير من الدقة وحسابات أكثر، مع ضرورة الإدراك بلازمة تثقيل أكثر لإرادة وقوة وعزم الجهة المقابلة التي تقرأ جيداً الموازين القائمة ومحدودية القدرات وجدواها لدى كل الأطراف.
كما يتبيّن، وإن لم يكن إلى حد الإقرار الرسمي العلني كما حصل تجاه الحرب السورية، بتسليم إسرائيلي ببقاء الرئيس الأسد وما يمثله من موقع في محور المقاومة، تراجعت إسرائيل عن شروطها «التي لا رجعة فيها». باتت قواعد الاشتباك واتفاق فصل القوات لعام ١٩٧٤، هي الشرط الإسرائيلي الأساسي للساحة السورية، وهو شرط مع «ال التعريف»، وإن كان يرفق في العادة بشروط أخرى، تعد حالياً بعد اتضاح التعذر في تحقيقها، من نوع رفع سقوف المطالب للحصول على أدناها.
كان لافتاً، في سياق الشروط الإسرائيلية، حديث رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، عن الخط الأحمر الفاقع للساحة السورية: إخراج الإيرانيين وحلفائهم من كل الأراضي السورية كشرط لإنهاء الحرب والتسليم ببقاء النظام في سوريا، كمعادلة تبادلية (كأن عدم التسليم الإسرائيلي يغيّر شيئاً من المشهد ومآلاته). ليعود نتنياهو، بعد هذا الشرط وصرامة طرحه، ليقول إن إخراج الإيرانيين من سوريا مسار نصل في نهايته إلى النتيجة الموضوعة له في نهاية المطاف، في حال تحلّينا بالصبر والعزيمة. وهو إقرار، ببلاغة زائدة، عن الفشل الإسرائيلي.
لكن الساحة السورية وتطوراتها والتهديدات والفرص الكامنة فيها من ناحية إسرائيل، هي جزء لا يتجزأ من المسائل الرئيسة المرتبطة والملتصقة بالأمن القومي الإسرائيلي، الأمر الذي يدفع السياسيين والعسكريين، وكذلك معلقي الإعلام العبري، إلى مراعاة المصلحة في عدم الإقرار بالفشل، مع «اللطم على الخد»، الذي منيت به إسرائيل في سوريا، وفي حد أدنى، فشل الرهانات على مآلات لم تصب في نهاية المطاف في دائرة المصالح الإسرائيلية الأمنية.
مع ذلك، تتسرب من هنا وهناك تعبيرات عن الخيبة والقلق من الآتي، رغم كل محاولات تعمية الحقائق من قبل تل أبيب حول الحرب السورية نفسها، وتصوير الحرب الجديدة ضد حلفاء سوريا في الساحة السورية التي يتبيّن تعذّر الانتصار فيها على أنها هي الحرب الابتدائية التي خيضت وأقر الانكسار فيها، وإن بصورة غير مباشرة، عبر التسليم بمآلاتها ونتيجتها وعودة الدولة السورية إلى موقعها الأساسي.
على ذلك، بات بالإمكان فهم ما أشارت إليه صحيفة «معاريف» أمس، من أن زيارة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لموسكو جاءت في سياق العمل الإسرائيلي على تأجيل حتمية سقوط المتمردين في الجنوب السوري، وذلك كما يبدو مقدمة لإمكان فرض شروط أكثر راحة وأكثر مصلحة لتل أبيب، تتجاوز مسألة العودة إلى اتفاق ١٩٧٤، ومن شأنها تقييد الدولة السورية ببنود تحدّ من مفاعيل انتصارها جنوباً في حد أدنى، إن لم يكن في كل الجغرافيا السورية. مهمة وهدف ثبت فشلهما، وإن كانت المكابرة لا تزال قائمة رسمياً في تل أبيب، على الأقل.