دمشق | تجتاح استراتيجيات المسؤولين الاقتصاديين كافة تفاصيل الحياة اليومية. إبراز مصادر تمويل «مظاهر الرفاهية» التي تعمّ حياة الشعب السوري، أمر يشغل بال اقتصاديي البلاد وأمنيّيه. وعليه، فمن ضرورات ضبط الدولة وتنظيمها الحرص على تطبيق القانون على عامة الشعب ممن لا «واسطة» لديه ويحرص أكثر من غيره على مراعاة السبل القانونية. من أمثلة ذلك، رحلة المعاناة لفتح حساب مصرفي في مصرف عام أو خاص، والإجراءات المتعلقة بذلك. إجراءات تفعيل حساب مجمّد هي ذاتها المتبعة لفتح حساب جديد، إذ يتطلب الأمر ورقة بيان عمل وسند إقامة موقّع من «المختار» والبلدية. وقد يتغاضى المصرف عن الحصول على بيان عمل، إن أمضيت على تعهّد بأنك عاطل من العمل، غير أن الأمر سيكلفك تقييداً على حوالاتك المصرفية التي قد تثير الشبهة في أن يكون مصدرها جهة عمل لم تصرّح عنها. وفي حال حصولكَ على عمل، عليكَ إعلام البنك، لصالح حسابك المصرفي وحرية أكبر في حوالاتك المصرفية. السلطات السورية مقتنعة بأن مثل هذه الإجراءات تكفل لها الرقابة على الحركات المالية في البلاد، متجاهلة أن المبالغة في هذه الرقابة قد تصرف نظر كثيرين عن فتح حسابات مصرفية، ما ينعكس سلباً على قطاع المصارف الذي يعاني ما يعانيه من شحّ في الموارد وضعف طاقات مالية. «أريد فتح حساب بالدولار». حاول أن تواجه الموظفة اللطيفة بنيّة من هذا القبيل. سترحّب بالأمر «عزيزها العميل»، مع معرفتها مسبقاً أنك ستصرف النظر بمجرد أن لفت نظرك إلى وجوب تقديم ما يثبت مصدر الدولارات التي ستودعها في المصرف. سيخطر بالبال في لحظة واحدة صرافو السوق السوداء وسوق الذهب والمصارف وآخر حوالة وصلتك من أحد أفراد عائلتك في الخارج، وينتهي الأمر بك إلى الامتناع عن فتح الحساب بالدولار «وبلا وجع هالراس». وبالمناسبة، في لبنان أيضاً يمنع السوري من فتح حساب في أي مصرف لبناني بالدولار، خشية العقوبات الأميركية. إذاً، ممّ تشكو الليرة السورية؟ اتّكل على الله، فالحكومة لا تحتاج دولاراتك، وأمور الاقتصاد «ماشية» بلا القطع الأجنبي. هل تظنّ حقاً أن الاقتصاد السوري متوقف على حسابك الذي يعتمد على ما توفّره من مصروفك لـ«غدرات» الزمن؟ المصرفيون السوريون يشغلون بالهم بأمور أكثر ثقلاً من قدراتك المالية، عزيزي المواطن. ستنبهك الموظفة اللطيفة إلى أن تمديد مهلة الانقطاع عن الحركات المالية المسموح بها قبل تجميد الحساب، قد أضحى سنة، بعدما كان الانقطاع عن عمليات السحب والإيداع في حساب ما مدة 6 أشهر كفيلاً بتجميد الحساب، والعودة من حيث بدأنا: بيان عمل وسند إقامة. ستعتذر إليك الموظفة قائلة: «إنها إجراءات مفروضة علينا من (البنك) المركزي». تفاصيل كثيرة شابت الحياة المصرفية السورية، إذ إنك أمام كل عملية سحب أو إيداع أو تسلّم حوالة ما، مطالب بذكر مصدر المال وتذييله بتوقيعك، أي على مسؤوليتك الشخصية. الأمر روتيني فقد تكتب في الإيصال أن مصدر المال مدّخرات، أو بيع عقار أو مصاغ. لن يدقّق أحد وراء صدق تعهّدك، حسب قول موظف أحد مراكز الحوالات، مستدركاً: «إلا إذا كان عليك شي كتمويل الإرهاب أو مشاكل أمنية تانية». إذاً، هو تعهّد كاذب وبعلم من يهمه الأمر، لكن لن يستخدم ضدّك إلا إن دعت الحاجة.
جميع الإجراءات أعلاه تقود إلى تعثّر السبل القانونية أمام المواطن، لإغناء اقتصاد بلاده المحاصرة ورفده بالقطع الأجنبي. بينما السوق السوداء مفتوحة على مصراعيها أمام المواطنين وبأسهل الضمانات المتاحة. ورغم إجراءات «معرفة العميل» التي تجتاح القطاع المصرفي عالمياً، بالتزامن مع بلاء الإرهاب الذي يعصف بالكثير من البلدان، في محاولة من أجهزة الاستخبارات للحدّ من تمويله ظاهرياً، فإن اتباع سياسة «من أين لك هذا؟» مع المواطن العادي، مثيرة للسخرية، في بلد يغرق بالفساد. وكيف يُسأل المواطن عن بضع مئات من الدولارات، في مقابل ملايين الدولارات يهرّبها موظفون حكوميون تطالعنا وسائل الإعلام المحلية بأخبار اختلاساتهم! تساؤلات يطرحها الشارع في كل المناسبات، ولا سيما بعد الكشف عن بيانات إحصائية تتحدث عن ودائع السوريين في دول الجوار، التي وصلت إلى 22 مليار دولار عام 2015، حصة المصارف اللبنانية بلغت 11 ملياراً، بالحدّ الأدنى. فيما بلغ حجم الديون المتعثرة للمصارف السورية، جراء دمار الحرب وخسائر الممتلكات، 280 مليار ليرة سورية، حسب تصريح حاكم المصرف المركزي السوري، وسط معلومات عن 1500 قضية حجز على المتأخرين في سداد القروض، في القطاعين العام والخاص. من الجدير بالذكر أن مجلس الوزراء أقرّ مشروع قانون إحداث الاتحاد السوري للمصارف، العام الفائت، الذي يهتم بتنسيق عمل مصارف القطاعين العام والخاص، ودراسة مشاريع القرارات والقوانين التي يقترحها المصرف المركزي، بما يتناسب مع مرحلة إعادة الإعمار وما يترتب عليها من دخول مصارف جديد، كالمصرف الروسي السوري المشترك، المنتظر افتتاحه القريب.