بعد فترة غياب سببتها الصراعات السياسيّة الداخليّة، تسارع إيطاليا خطاها من أجل ضمان هيمنتها على الملفّ الليبيّ، خصوصاً بعد أن صارت خريطة الطريق المنبثقة من اتفاق «باريس 2» محور الفعل والنقاش السياسيّ في ليبيا. وشهد هذا الأسبوع تحركات إيطالية حثيثة لخلق مسار سياسيّ موازٍ للخطة الفرنسيّة، يرتكز أساساً على إسقاط بند إجراء انتخابات في كانون الأول من هذا العام، وخلق مسار سياسيّ إدماجيّ يذهب أبعد من التركيز على الأشخاص في حلّ الأزمة. البداية كانت في واشنطن، حيث التقى رئيس الوزراء الإيطاليّ جوزيبي كونتي بالرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، وعلاوة على الودّ الشخصيّ الذي أظهره الرجلان، طالب الجانب الإيطاليّ بتأسيس «غرفة تحكّم دائمة» في البحر المتوسّط بين البلدين، وبدعم عقد مؤتمر في روما حول ليبيا، وبأن تكون إيطاليا المرجع الأوروبيّ لواشنطن حول الملف الليبيّ («الأخبار»، العدد 3529). بعد أسبوع فقط، أي أول من أمس، وصل وزير الخارجيّة إينزو ميلانيزي إلى مصر، في زيارة أولى لمسؤول إيطاليّ سامٍ منذ ثلاثة أعوام. كسر الجمود السياسيّ بين البلدين الذي سبّبه مقتل الطالب جوليو ريجيني في ظروف غامضة بمصر بدا ضروريّاً من وجهة النظر الإيطاليّة، ذلك أنّ مصر لاعب أساسيّ في شرق ليبيا من ناحية دعمها سياسيّاً وعسكريّاً للبرلمان المتركز هناك ولخليفة حفتر وقواته.
وشرق ليبيا مهمّ لإيطاليا لأنّه يمثّل مصدر قلقها الأكبر. تسرّبت فرنسا إلى ليبيا من شرقها، حيث وفّرت دعماً عسكريّاً لخليفة حفتر، إحدى أهمّ دوافعه هو تأمين ظهر القوات الفرنسيّة العاملة في مالي والنيجر وتشاد، وقطع خطوط إمداد الجماعات الجهاديّة العاملة في المنطقة. لكن توجد أيضاً مصالح اقتصاديّة، تتمثّل أساساً في دعم انتشار نشاطات شركتها النفطيّة العملاقة «توتال».
التقى وزير الخارجيّة الإيطاليّ السيسي، بحضور سامح شكري وعباس كامل


وعلى عكس فرنسا، استثمرت إيطاليا في غرب البلاد، حيث طوّرت علاقات عسكريّة ومدنيّة مع الفاعلين، خصوصاً في العاصمة طرابلس ومدينة مصراتة التي شكّلت قواتها العمود الفقريّ لعمليّة «البنيان المرصوص» ضدّ «داعش» في وسط البلاد. استراتيجيّة إيطاليا قامت على تأمين حقول النفط والغاز التي تستغلها شركتها العملاقة «إيني»، والتي يقع أهمّها في وسط وجنوب وشمال البلاد، وفي وقف سيل المهاجرين الذين ينطلقون من مدن غرب البلاد.
لعبت إيطاليا دوراً محوريّاً في الوصول إلى «اتفاق الصخيرات السياسيّ» نهاية عام 2015، وفي تشكيل المجلس الرئاسيّ وحكومة الوفاق الوطنيّ. وقد اتهمت جهات من شرق البلاد «المجلس الرئاسيّ» بأنّه وصل طرابلس «على متن بارجة إيطاليّة»، في إشارة إلى ولائه للمستعمر السابق، كما تراوحت مواقف خليفة حفتر بين رفض الاتفاق وبين اعتباره منتهي الصلاحيّة.
مصر إذاً بوابة أساسيّة لشرق ليبيا، فنفوذها هناك كفيل بالمساهمة في تعديل الموقف السياسيّ تجاه إيطاليا، ومن ثمّ إنجاح «مؤتمر روما» المزمع عقده في شهر نوفمبر. عقب اللقاء، تحدث بيان الرئاسة المصريّة عن «دعم مساعي المبعوث الأمميّ في هذا الإطار، وأهميّة الإعداد الجيّد للانتخابات الليبيّة المقبلة». والملاحظ هو عدم ذكر إعلان قمّة «باريس 2»، وعدم ذكر موعد محدّد للانتخابات، وتتساوق عبارة «الإعداد الجيّد» مع اللغة الإيطاليّة المستخدمة بخصوص الانتخابات، حيث قال جوزيبي بيروني، السفير الإيطاليّ في ليبيا، خلال لقاء متلفز يوم الجمعة: «إنّ المهم الآن ليس موعد إجراء الانتخابات، بل تهيئة الظروف المناسبة لإجرائها».
من جهتها، تبدو مصر واعية بدورها في الملف الليبيّ وأهميّة استغلاله على المستويين السياسيّ والاقتصاديّ في علاقتها مع إيطاليا. فمن ناحية، تعتبر الزيارة نفسها إنجازاً سياسيّاً بعد فترة فتور ونقد حادٍ لوضعيّة حقوق الإنسان في مصر، وهي من ناحية ثانية فرصة لـ«الارتقاء بالتعاون المشترك بين البلدين في مختلف المجالات الثنائيّة بين البلدين وبخاصّة العلاقات الاقتصاديّة والتجاريّة والاستثماريّة... خصوصاً في مجال الغاز والطاقة»، وفق بيان الرئاسة المصريّة.
كما أعرب وزير الخارجيّة المصريّ، في أعقاب اجتماع ثنائيّ جمعه مع ميلانيزي، عن تطلّعه لتفعيل «مجلس رجال الأعمال» المشترك بين البلدين، والمجمّد منذ عامين، وأشاد بعمل الشركات الإيطاليّة النفطيّة، خصوصاً بعد توليها أخيراً تطوير مشروعات جديدة، إضافة إلى مشروعات أخرى تخصّ إنشاء جامعة إيطاليّة في مصر ودعم القطاع الفلاحيّ والصناعات الصغرى، وتوفير الحكومة الإيطاليّة ضمانات لشركاتها للاستثمار في مصر.