لم تتضح بعد كل ملابسات استشهاد مدير مركز البحوث العلمية في مصياف السورية، الدكتور عزيز إسبر، إلا أن الفرضية الأكثر اعتباراً حتى الآن، أن تل أبيب هي الجهة المعتدية. أرجحية تلامس الاطمئنان، مع أو من دون إقرار إسرائيلي.والأرجحية الإسرائيلية مبنية على سياقات سابقة وعلى هوية الشهيد ومهامه ومصلحة إسرائيل في «تحييده». وهي عملية اغتيال، تأتي في سياق الحرب التي تشنها إسرائيل على مكامن القوة ومنابعها، في سوريا، ضد الدولة السورية نفسها وضد حلفائها، وتحديداً ما يرتبط بترميم القدرات العسكرية النوعية وتطويرها، التي من شأنها إعادة الندية العسكرية والردع المتبادل إلى مرحلة ما قبل الحرب السورية.

عملية الاغتيال، بدلالاتها، تعني دخول إسرائيل مرحلة جديدة من الاعتداءات، تؤشر بدورها إلى أنها لم تعد تكتفي بالضربات الموجهة عن بعد، كونها تلمست محدودية تأثير هذه الضربات وفاعلياتها، في مسارات تعاظم أعدائها في سوريا. وهو أمر يعكس حجم التحدي الذي تواجهه تل أبيب على جبهتها الشمالية، وتؤكد من خلال مواصلة اعتداءاتها وتنوعها على عزمها على المواجهة، بما لا يؤدي إلى مواجهة شاملة حتى الآن.
منذ أعوام، تركّز إسرائيل على استهداف مكامن القوة لدى حلفاء الدولة السورية، سواء في سوريا نفسها أو عبرها. التركيز كان محدداً في مواجهة نقل السلاح النوعي من سوريا إلى لبنان، في محاولة للحد من قدرات الأعداء في هذه الساحة (لبنان)، التي كانت معدة للحصار اللاحق و«الخنق»، بعد سقوط الدولة السورية. الاطمئنان على مصير سوريا، كان كاملاً، ومسألة التحاقها بـ«الاعتدال العربي»، كلها أو أجزاء كبيرة منها، ومن ثم التماهي مع إسرائيل، كانت يقينية إلى الحد الذي لم تكن القدرات العسكرية السورية، وإمكاناتها اللاحقة ما بعد الحرب، تشكّل خطراً أو تهديداً على إسرائيل، بل جزء لا يتجزأ من قدرة حليفة «معتدلة»، ستقود هي نفسها الحرب على أعدائها في لبنان بعد سقوط سوريا.
تريد تل أبيب منع الصناعات العسكرية السورية من استئناف دورها


وكما هو معروف، تعمل إسرائيل منذ أن اتضح لها خسارة الحرب السورية، على فرض معادلات وقواعد اشتباك في الساحة السورية، سواء نجحت في ذلك أم لا. اعتمدت في الماضي على المسلحين أنفسهم، ومن ثم الاعتداءات العسكرية المباشرة، وأخيراً عبر الحرب الأمنية واستهداف الخبراء السوريين. وهي تراهن أن بإمكانها، الدفع نحو تثبيت خطوط حمراء في منع الصناعات العسكرية السورية من استئناف دورها وإنتاجها. وهو ما كانت إسرائيل وعلى لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، قد أضافته في سلة المطالب لمرحلة ما بعد الحرب.
بعد اتضاح نتيجة الحرب ومساراتها الفعلية، باتت الدولة السورية نفسها، مع حلفائها، جزءاً لا يتجزأ من تهديد قائم، وكذلك وهو الأهم من ناحية إسرائيل، جزءاً لا يتجزأ من تهديد متعاظم مقبل. إعادة ترميم القدرات السورية، مع أو من دون حلفائها، من إيرانيين أو غيرهم، وإن كانوا هم رأس الحربة التهديدية في تماهيهم مع سوريا، يعد أهم المسائل والتحديات الماثلة أمام إسرائيل وأمنها القومي، ما يعني أنها معنية، وإلى حد الدفع للمواجهة مع تلقي أثمان، قدر المستطاع، لمنع تشكّل هذا التهديد.
الدكتور إسبر، هو إلى جانب آخرين، مدماك من مداميك المعرفة والخبرة السورية المشتركة مع الحلفاء الإيرانيين، في العمل على إعادة ترميم هذه القدرات وتنميتها وتطويرها. وكما ترى إسرائيل، فإن ملف دقة الوسائل القتالية، هو أهم المركبات التي تخشاها إسرائيل، وعلى ذلك قادت الحرب ضد إسبر وضد مركز البحوث، بفروعه ومنشآته وتطويراته، وهي الآن بدأت مرحلة استهداف رجالاته وخبرائه. لكن هل تحقق هذه الاعتداءات أهداف إسرائيل في منع ترميم القدرة العسكرية السورية، سواء عبر الاعتداءات المتفرقة الموضعية أو عبر العمليات الأمنية التي يبدو أنها بدأتها (أو بالأحرى واصلتها) ضد الكوادر والخبراء السوريين.
الإجابة تبدو مركبة، وإذا كانت إسرائيل تراهن، وهي كذلك، على إمكاناتها في تشويش مسار الترمبم العسكري لمرحلة ما بعد الحرب، فإنه من المستبعد، بل والأرجح أن تغيّر هذه الاعتداءات، وإن دخلت مرحلة الاعتداءات الأمنية والاغتيالات، من المسار ووجهته ونتيجته. نعم الضربة مؤلمة، لكن المسار والعزيمة والإرادة السياسية المشتركة لدى الحليفين الإيراني والسوري، أكبر بكثير من قدرة التشويش الإسرائيلية.
خسرت إسرائيل الحرب في سوريا ولا يفيدها العناد في محاولات صد ومنع نتائجها. أما تجزئة النتائج والعمل عليها فرادى، وبأدوات ووسائل ما دون الحرب الواسعة والشاملة التي لا تقدر عليها، فهي محاولات تستدعي التأمل الطويل ومعاينة لا جدواها ولا فائدتها.