أشرقت الشمس لتعلن يوماً طويلاً بدأ للتو. وعلى رجوى أن تنطلق لتؤدي مهمتها اليومية الأبدية: «التنبؤ بالمستقبل». ساكنو الخيام المجاورة للخيمة التي تعيش فيها مع أبنائها الثلاثة وزوجها، على أطراف مدينة اللاذقية، استيقظوا أيضاً. أبناء رجوى، ماجد وهيثم والأكسم، سيرافقون الأولاد الآخرين في رحلة التسول اليومية، وهي سترافق بقية النسوة إلى الكورنيشين الغربي والجنوبي، فيما ستتجه الباقيات إلى «سوق الخضرة»، حاملات على رؤوسهن أواني نحاسية مليئة بالجبن لبيعها هناك.
زوج رجوى ما زال نائماً، وكذلك بقية الرجال، ما عدا من يملك منهم قطيع غنم عليه أن يسرح به في الأراضي المجاورة لتجمّع الخيام، وصولاً إلى المسطحات الخضراء في مدخل المدينة الشرقي. هي تعلمت ألّا تطرح الأسئلة عن السبب الذي يجعلها معيلة لزوجها وأولادها. هو قانون مجتمع الغجر الذي عليها قبوله دون نقاش. «نحن يسموننا الرياس، جينا من حمص، وقبل الحرب كانوا رجالنا يدقون بالطبل والصنيج والزمر بالأفراح، والنسوان يلي صوتها طيب كانت تغني، لكن الحرب ما خلّت قلب مرتاح، والطبل والزمر ما عاد لهم مكان بهاي البلاد» تقول رجوى. وتضيف: «الحين الرجال تسرح بالغنم والنسوان تبيع اللبن والجبن، ويلي ما عندهم غنم تشتغل نسوانهم بالتبصير وولادهم بالشحادة».
بعين ثاقبة يقع نظر رجوى على زبونة محتملة. فتاة تجلس وحيدة على أحد مقاعد الكورنيش. تسير نحوها وتقول: «بالك مشغول يا حلوة، بيضي الفال لشفلك بختك». الفتاة التي يخبر وجهها الشاحب الكثير عن دواخلها، تنظر بيأس إلى البصارة ولا تتجاهلها كما يفعل غالبية زوار الكورنيش، وتمدّ يدها إلى حقيبتها لتعطيها 100 ليرة سورية. «قولي شهدتك بالله، قولي فدا شبابي، قولي فدا صحتي، قولي فدا حبيبي»... الفتاة تردد العبارات بينما تتحاشى نظرات المارة الساخرة.
في السنوات الأربع الأخيرة اتسع قاموس البصارات ليحتوي مفردات الحرب وويلاتها التي باتت قاسماً مشتركاً بين الجميع على اختلاف همومهم وهواجسهم. عشرات الأحلام الضائعة تعثر عليها البصارات في أكفّ الباحثين عن بارقة أمل. رجال ونساء هزمتهم الحرب وكسرهم غياب الأحبة... باتوا ينتظرون الوعد بالخلاص، وإن كذباً من بصارة تبيع الأوهام لقاء ليرات قليلة. 500 ليرة كافية لتبتكر للزبون نبوءة تفرح القلب، فيما تكون نبوءات 200 ليرة مشوشة ويعوزها اليقين. أما نبوءات الشؤم فهي مخصصة لمن لا يدفعون أكثر من 100 ليرة. «بعمري ما بصرت ولا بآمن بهي القصص، بس هلق كل ما جيت ع الكورنيش بخلي البصارات يقرولي بالكف، وبعرف إذا أكرمتهن رح يطيبوا خاطري. بسألهن إذا حا يوصلني خبر عن ابني يلي انقطعت أخباره من سنتين بعد ما انخطف بالرقة، وما بعرف عايش ولا ميت. وبرتاح لما البصارة تقلي إن الفرج قريب ورح يرجع وافرح فيه وشوف أولاده»، تقول أم أحمد التي تعيش على أمل عودة ابنها يوماً ما. وكذلك الأمر بالنسبة إلى نجاة، الحاصلة على شهادة في الأدب الانكليزي، وتعترف بأنها باتت تلجأ إلى البصارات كلما ثقل عليها غياب خطيبها العسكري الذي بات زواجها به أشبه بالحلم، بينما ينتقل من جبهة إلى جبهة: «بعرف انو كلام بكلام بس بريحني. انو البصارة تشوف بخطوط كفي انو حلم الزواج والبيت والعيلة ما أخدتو الحرب مع باقي الأحلام، وانو في طريق رح كملو مع حبيبي يلي بفيق وبنام ع هاجس استشهاده».
نحو 500 ألف نسمة تعداد «الغجر» في سوريا، وهم أيضاً نالوا نصيبهم من الحرب، وأضيفت مسيرات الخوف والهرب من الموت إلى تغريبتهم الأبدية، بعدما باتت الأراضي التي كانوا ينصبون خيامهم فيها على أطراف المدن مهددة بالقذائف والصواريخ. «إن ما متنا بالقذائف ممكن نموت ذبح. المسلحين يشوفونا كفار لأن نحن نبصر ونغني»، تحكي جميلة القادمة من حلب، وتضيف: «الخيمة كانت ما تلحق أوتادها تثبت بالأرض حتى نشيلها ونهرب». ورغم ذلك لم يكن ثقل النزوح على الغجر كما هو على باقي السوريين، لجهة أن الرحيل دون وجهة هو ديدنهم.