مرة أخرى يفشل العدو الإسرائيلي في الخروج من الدائرة المغلقة التي وجد نفسه داخلها في مواجهة قطاع غزة؛ فلا هو مستعد لتحمّل نتائج وتداعيات أثمان مواجهة واسعة وصولاً إلى إعادة احتلال القطاع، خاصة أنه أخفق مراراً في كسر معادلة الردع التي أرستها فصائل المقاومة، ولا هو قادر على التكيف مع استمرار النضال الشعبي الذي تتجاوز مفاعيله ورسائله محيط القطاع إلى ساحات الانتشار الفلسطيني، وإلى عواصم حياكة مخططات «صفقة القرن». مع ذلك، تجد إسرائيل نفسها مضطرة إلى تكرار محاولات القمع والردع، وهي في كل مرة تحاول اجتراح رهان جديد، لكن النتيجة نفسها: العودة إلى المعادلة السابقة. إزاء هذا المستوى من الاعتداءات التي شهدها القطاع، عادة ما يُبحث عن المستجد الذي يدفع صانع القرار في تل أبيب إلى اتخاذ قرار بهذا الحجم. ويتعزز الدافع إلى معرفته في ضوء أن المؤسسة الإسرائيلية بكل عناوينها السياسية والاستخبارية والعسكرية تركز أولوياتها في هذه المرحلة على الجبهة الشمالية، وأغلب القادة السياسيين والعسكريين يتجنبون الذهاب بعيداً في مواجهة عسكرية مع غزة.
على هذه الخلفية، كشف العدوان الإسرائيلي، الأوسع منذ «الجرف الصامد» قبل أربع سنوات، عن أن مفاعيل النضال الشعبي تتفاعل في الساحة الإسرائيلية، وفرضت نفسها على جدول أعمال المستويين السياسي والأمني إضافة إلى الرأي العام الإسرائيلي. ويبدو أن القيادة الإسرائيلية باتت مضغوطة بفعل عوامل متعددة، من ضمنها التداعيات التي تركها استمرار النضال الشعبي (مثل الطائرات والبالونات الحارقة) الذي تتخوف تل أبيب من أن يتواصل تصاعدياً، وهو ما شكّل عبئاً على المؤسسة الأمنية، وعزّز ضغوط مستوطني «غلاف غزة»، إضافة إلى السجال السياسي الداخلي الذي يتفاقم على خلفية الموقف من غزة.
يؤكد حجم العدوان، والحملة السياسية والإعلامية التي واكبته، أن ما حدث لم يكن تدحرجاً بفعل ردّ موضعي على حادث هنا أو هناك، بل ترجمة لقرار مسبق وفي إطار مخطط ومدروس، وهو ما أكده المعلق السياسي في صحيفة «معاريف» بن كسبيت، الذي قال إن الأجهزة الامنية استعدت منذ أسبوعين لهذا الهجوم، ما يعني أن ما حدث «عملية عسكرية خطط لها الجيش» في أعقاب تعليمات وجهها وزير الأمن أفيغدور ليبرمان، بـ«تغيير التوجه إلى شنّ هجوم واسع ضد حماس، حتى لو كلف تصعيداً أو جولة عنف أخرى».
تدل المؤشرات كافة على إمكانية تجدد المواجهة في وقت قريب


في المقابل، كشف الرد الفلسطيني المكثف والسريع، أكثر من 180 صاروخاً وقذيفة، عن تصميم المقاومة على مواصلة حماية شعبها، وعزمها على الرد على القصف بالقصف، ومنع العدو من أن يفرض معادلته مع القطاع. وبلحاظ الضوابط التي التزمها الطرفان خلال تبادل النيران، يمكن التقدير أن ما حدث شكل ارتقاءً كمياً في القصف من دون تجاوز خطوط حمر محدّدة للطرف الآخر (باستثناء أن القصف طاول وسط غزة وأوقع أضراراً كبيرة وشهداء)، الأمر الذي حضر بوضوح لدى المعلقين العسكريين الإسرائيليين، بقولهم إن مديات القصف وضوابطه تدل على أن الجانبين لا يتجهان نحو مواجهة واسعة. ولفت هؤلاء إلى أن «حماس لم تطلق صواريخ طويلة المدى، وإنما باتجاه مستوطنات غلاف غزة». في المقابل، قصفت إسرائيل «على نحو مدروس» مواقع للحركة وفصائل أخرى، من دون التسبب في سقوط عدد كبير من الشهداء.
في كل الأحوال، من الواضح أن القيادة الإسرائيلية عندما درست خياراتها، توصلت إلى صعوبة التكيف مع الواقع القائم، وفي الوقت نفسه الحرص على تجنب خوض عملية واسعة تستمر أسابيع، وتؤدي إلى قصف العمق الإسرائيلي، ثم إعادة التوصل إلى تفاهمات مشابهة لما مضى، هذا بالإضافة إلى أن التدحرج نحو عملية بهذا الحجم سيكون مثل السقوط في الفخ، ويربك أداءها على الجبهة الشمالية التي تدرك بشأنه أن كل اعتداء هناك قد يتحول في أي لحظة إلى مواجهة واسعة، خاصة في حال كان لدى الإسرائيلي نيات تصاعدية في هذا المسار.
ما حدث يشكل، في الوقت نفسه، ارتقاءً في الرسائل المتبادلة، وذلك في سياق مسار تصاعدي، وهو ما قد يؤشر ويمهد لجولات لاحقة، لكن إسرائيل ستبقى مضطرة إلى أن تبقى مضبوطة تجنباً لردود تتجاوز قدرتها على التحمل. وفي ضوء الإرباك الذي تشهده المؤسسة الإسرائيلية، حول الأهداف والخيارات الواجب اتباعها مقابل القطاع، وتعقيدات المشهد الإقليمي وتفاعله مع الداخل الفلسطيني، كل ذلك يلقي بثقله على مؤسسة القرار في تل أبيب، ويمنح المقاومة في غزة مزيداً من هامش المبادرة والرد، الذي يستند في الدرجة الأولى إلى التصميم والقدرة على الرد على الاعتداءات.
في النتيجة، وتحديداً بشأن اليومين الماضيين، فشلت إسرائيل مجدداً في فرض معادلتها على المقاومة، لكنها ترفض التوصل إلى اتفاق تهدئة يمنع استمرار التوتر والتصعيد أو يرفع الحصار الجائر. وفي المقابل، ترفض المقاومة وقف «مسيرات العودة»، أو منع الطائرات الحارقة، وهي تطالب برفع الحصار من دون أثمان تتعلق بسلاح المقاومة.
لذلك، لم ينفع تباهي رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، بما قاله أمام جلسة الحكومة، وفيه أنه «تم توجيه ضربة إلى حماس هي الأشد منذ الجرف الصلب»، من أجل تغيير الانطباع داخل الكيان إزاء نتائج هذه الجولة من القتال الصاروخي، ولذلك توسعت دائرة المنتقدين لنتائج الجولة الأخيرة على المستويين السياسي والإعلامي. ومن هنا ينبع أيضاً تلميح نتنياهو بنفسه إلى جولات أخرى، بالقول: «آمل أنهم استوعبوا الرسالة، وإذا لم يستوعبوها، فإنهم سيستوعبونها لاحقاً»، لكنه تجاهل حقيقة أن المقاومة ردت أيضاً بكثافة هي الأكبر منذ ذلك الوقت، ورفضت تلبية المطلب الإسرائيلي بالامتناع عن مواصلة المسيرات واستمرار إطلاق الطائرات الورقية والبالونات الحارقة.
في المقابل، ترى التقديرات السائدة في الساحة الإسرائيلية أن ما حدث شكل ضربة جديدة لقدرة الردع، فبدلاً من أن تحسن موقع إسرائيل في المعادلة، أظهرت المقاومة الفلسطينية تصميمها مجدداً على التصدي لأي عدوان. والجديد أن العدو راهن على أن يرفع منسوب القلق لدى المقاومة من أن يكون هناك قرار بالذهاب حتى المواجهة الواسعة والمتدحرجة والمتواصلة، لكنه اكتشف أن قيادة المقاومة تدرك تماماً القيود التي تطوِّق القرار الإسرائيلي، وهو ما انطوى عليه كلام رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، اللواء عاموس يادلين، عندما قال: «لقد أشرنا إلى أن العيون شاخصة نحو الشمال، وأننا لا نخرج إلى حرب بسبب طائرات ورقية وبالونات حارقة». كما اعترف يادلين بأن «الردع مقابل حماس تصدّع، وحماس غيرت المعادلة وإسرائيل فقدت قدرة قيادة الأحداث مقبال حماس في غزة»، لافتاً إلى أن الحركة عادت للعمل ضد منطقة «غلاف غزة» على نحو لم تتجرأ على فعله في السنوات الثلاث التي تلت «الجرف الصلب». انطلاقاً من هذا التقويم، دعا إسرائيل إلى العمل على إعادة الردع الذي فقد فعاليته، وتجنب الخشية من جولة قتال إضافية.
المؤكد أن هذه الجولة من القتال الصاروخي ستحضر مع نتائجها ورسائلها لدى صناع القرار الأميركي والسعودي أيضاً، وتؤكد لهم مجدداً عزم الشعب الفلسطيني وقدرته ليس فقط على تحويل «غلاف غزة» إلى ساحة ضغط على إسرائيل، بل أيضا على «صفقة القرن». ومرة أخرى يظهر أن كل المساعي السياسية والتهويلية التي توالت خلال الأشهر السابقة لم تنفع في تطويع الإرادة الفلسطينية المصممة على مواصلة النضال الشعبي والمقاوم. كما يحضر في خلفية كل المتربصين بالقضية الفلسطينية ومقاومتها القلق من الدور الاستنهاضي الذي يؤديه قطاع غزة، بمقاومته وشعبه. أما ما يرفع منسوب القلق لديهم، فهو أن المواجهة الأخيرة شكلت مناسبة إضافية لتظهير حجم التصميم الذي يتمتع به الشعب الفلسطيني على مواجهة أي مخطط يستهدف تصفية قضية العودة إلى الوطن، أو استعادته كلياً.