يندرج الاعتداء الإسرائيلي الذي استهدف مطار «تي فور» في ريف حمص، أول من أمس، ضمن سياقات عدة في آن، ويأتي امتداداً لسياسة عدوانية ينتهجها العدو. لكن بعد فشل الرهان على الجماعات الإرهابية والتكفيرية، لم تعد استراتيجية «المعركة بين الحروب» تستند فقط على قاعدة اقتناص فرصة انشغال الجيش السوري وحلفائه بمواجهة الجماعات الإرهابية، وإنما أيضاً بهدف الحد من مفاعيل وتداعيات انتصار محور المقاومة في سوريا والعراق ولبنان، وما يمكن أن يترتّب على ذلك من تعزيز لمعادلة الردع الإقليمي في مواجهة إسرائيل. ويأتي أيضاً بالتزامن مع الاتصالات الدولية التي تجريها تل أبيب مع عواصم القرار الدولي، وعشية لقاء نتنياهو – بوتين في موسكو.اعتادت إسرائيل – في شكل غير رسمي - أن تضع مثل هذه الاعتداءات التي تستهدف العمق السوري، في إطار استهداف ما تقول إنه أسلحة نوعية في طريقها إلى حزب الله، وزادت عليها منذ السنة الماضية، ما تقول إنه لمنع التمركز العسكري الإيراني في سوريا. وهو ما ألمح إليه المعلق العسكري في صحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، الذي احتمل أن يكون هدف الاعتداء «تكتيكياً، ضرب شحنة جديدة لوسائل قتالية، أو منظومة أسلحة بدأت بالانتشار».
مع أن أياً من الأطراف لا ولم يكشف عن نتائج هذه الاعتداءات، المستمرة منذ أكثر من خمس سنوات بوتيرة متفاوتة، إلا أن نتائجها وتداعياتها على قدرات حزب الله، تكشف عن نجاح محدود جداً. ومن أبرز المؤشرات على هذا التقويم، مواقف القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين أنفسهم، التي تقر بتطور قدرات حزب الله كمّاً ونوعاً طوال سنوات «المعركة بين الحروب». وهو ما يكشف على نحو اليقين بأن تنفيذ الضربات لا يعني بالضرورة نجاحها في تحقيق أهدافها العسكرية.
في المقابل، لا يعني ما تقدم، أن هذا المسار من الاعتداءات سيستمر سنوات أيضاً، حتى تتضح نتائجه، خصوصاً أن ظروف سوريا والبيئة الإقليمية، باتت تختلف كلياً عما كانت عليه خلال السنوات السابقة، وتحديداً لجهة عودة سيطرة الدولة السورية على أغلب أراضيها، وتراجع التهديد الذي تشكّله الجماعات الإرهابية إضافة إلى تطورات إقليمية، قد يكون لها دور حاسم في تسريع عجلة التطورات بهذا الاتجاه الحربي، أو ذاك الاتجاه الردعي.
مع ذلك، فإن إسرائيل متمسكة بهذا المسار العملاني كونه الخيار الممكن والأقل كلفة في هذه المرحلة، في مقابل خيارات قد تبدو أنها أكثر جدوى على المستوى النظري، لكنها تتسبب بمواجهات كبرى ستطاول تداعياتها عمقها الاستراتيجي، إضافة إلى حاجتها للحفاظ على القناة السياسية مع موسكو الحريصة على ألا تندفع التطورات نحو مواجهة واسعة تهدد ما أنجزته حتى الآن. وعلى ذلك، من المتوقع أن تتواصل هذه الاعتداءات، خصوصاً بعد فشل كافة المحاولات السياسية والردعية التي راهنت من خلالها تل أبيب على تحقيق النتائج المؤملة منها، ولو في شكل جزئي.
ستحضر اعتداءات إسرائيل المتكررة في قمة نتنياهو ــ بوتين


أيّاً كانت الأهداف العسكرية للاعتداء في مطار «تي فور»، فإنه يأتي في سياق سياسي أوسع، وبموازاة استمرار تقدم الجيش السوري في منطقة درعا، وتسليم إسرائيلي باستعادة سيطرة دمشق على كافة أراضي الجنوب السوري. مع ذلك، فإن مؤسسة القرار السياسي في تل أبيب، تبنّت خيار تجنّب التدخل العسكري الذي سيؤدي إلى مواجهة عسكرية التي من الصعب التنبؤ بتداعياتها السياسية والعسكرية. ووجدت نفسها ملزمة بالتكيف مع السقف الذي فرضته القيادة السورية بعدما رفض الرئيس بشار الأسد صيغة تفاهم حاولت تل أبيب الترويج لها عبر موسكو، تُلزم الدولة السورية بقيود تمس سيادتها، في مقابل عدم عرقلة تقدم الجيش السوري.
في المقابل، هدفت إسرائيل أيضاً، من خلال اعتدائها على «تي فور»، توجيه رسالة إلى دمشق، مفادها أن انكفاءها في مواجهة تقدّم الجيش السوري لا ينسحب على اعتداءاتها في العمق السوري التي تشكل ترجمة عملية لمرحلة جديدة في الصراع، تقوم على تدخّل إسرائيلي مباشر، لكن في شكل مدروس ومضبوط، على أمل أن تتمكن من الحد من تبلور الواقع السوري والإقليمي الذي يعزز معادلة الردع الإقليمي في سياق الصراع مع إسرائيل، بعدما فشل الرهان على الجماعات الإرهابية لتحقيقه.
المؤكد أن اعتداءات إسرائيل المتكررة، وظلال اعتدائها على «تي فور»، ستحضر أيضاً في قمة نتنياهو – بوتين يوم غد الأربعاء. ويهم رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يبدو مُصمِماً أمام الرئيس الروسي على مواصلة الاعتداءات التي تستهدف العمق السوري تحت عناوين تتصل بحماية أمنها الاستراتيجي، على رغم ما تنطوي عليه من أخطار التدحرج. وتحتاج تل أبيب إلى إظهار هذا التصميم على مستوى الموقف، والتنفيذ العملاني، بعدما تراجع سقف رهاناتها على فعالية دور موسكو – التي لا تستطيع الاستغناء عنها – في تحقيق ما تطمح إليه، لجهة إخراج حزب الله، والحرس الثوري وحلفائهما، من الأراضي السورية. وأرادت إسرائيل التأكيد أيضاً على أن قلقها الأهم ليس من الجنوب السوري فقط، وإنما أيضاً من سيناريو تنصب فيه إيران صواريخ بعيدة المدى في العمق السوري، قادرة على استهداف العمق الإسرائيلي في أي مواجهة واسعة. بل هو التهديد الاستراتيجي، الذي يهم صناع القرار العسكري والاستخباري والسياسي في تل أبيب.
قد تكون إسرائيل نجحت وتنجح في تنفيذ رسائل عدوانية في الساحة السورية، لكن فشل أو محدودية نجاح «المعركة بين الحروب» في مواجهة حزب الله خلال السنوات الماضية، تشكّل مؤشراً قوياً على آفاق جدوى هذه الاستراتيجية على المديين المتوسط والبعيد في الساحة السورية، وهو ما يقلق تل أبيب ويدفعها لمواصلة الاتصالات مع موسكو. وقد تكون وجهت رسائل إلى دمشق بأن انكفاءها في منطقة الجولان لا ينسحب على العمق السوري، لكن التجربة أثبتت بأن تصميم الرئيس الأسد في مواجهة التهويل الإسرائيلي قادر على تحويلها إلى رسائل عقيمة. وصحيح أن موسكو قد تكون متفهمة لهواجس إسرائيل الأمنية لكن موقف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قبل أيام على قمة نتنياهو – بوتين، بأنه «من غير الواقعي انتظار خروج إيران من سوريا وتوقفها عن لعب دورها في الإقليم»، يؤشر إلى السقف الروسي الذي سيكون حاضراً على الطاولة بينهما.